فى الوقت الذى تتسارع فيه الأزمات، الدولية، جراء احتدام الصراع الدولى بين الشرق والغرب فى أوكرانيا، تبدو هناك العديد من الفرص للعديد من المناطق الجغرافية، نحو الاستقلال بالقرار السياسى، مما يساهم فى زيادة الزخم التى تحظى بها تلك الأقاليم، وفى القلب منها المنطقة العربية.
ولعل الحديث عن الأزمات الدولية الراهنة، وتعقيداتها، والفرص التى تمنحها، كان محور الكلمة، التى ألقاها الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد ابو الغيط فى ندوة أمام كلية الدفاع الوطنى بسلطنة عمان، حيث وصف أزمات العالم الحديث بالاستدامة، على عكس الأزمات الدولية السابقة والتى نجح الكوكب فى اجتيازها.
وفى هذا الإطار، وقال أبو الغيط إن ما يواجهه العالم اليوم اليوم ليس أزمة واحدة، ولا حتى عدة أزمات متداخلة، وإنما عددًا من الأزمات المستمرة أو المستديمة، حيث أصبحت الأزمة ليست حدثًا طارئًا يجرى تجاوزه، وإنما واقعًا مستمرًا يتعين التعايش معه والتعامل مع تبعاته، موضحا أن العالم عبر من قبل أزماتٍ اقتصادية خطيرة، مثل الأزمة العالمية فى 2008 و2009، وأزمات جيوسياسية تُهدد الأمن والاستقرار، مثل الحرب على الإرهاب، ولكن هذه هى المرة الأولى منذ عقودٍ طويلة، التى يُعانى فيها العالم كله تقريبًا من عددٍ من الأزمات المتلاحقة المتداخلة، سواء على صعيد الصحة أو المناخ، أو الاقتصاد العالمى أو الأمن، والأخطر أن تلك الأزمات لا يُنتظر لها حلٌ سريع أو مخرجٌ عاجل، بل صفتها الرئيسية هى الاستمرارية لفتراتٍ طويلة، مع تبعات ممتدة وعميقة الأثر.
وتتنوع الأزمات الدولية الراهنة، بين الصراعات الدولية، وهو ما يبدو فى بزوغ الأزمة الأوكرانية، وكذلك احتدام المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما يحمل تداعيات كبيرة ومعقدة على العالم بأسره، فى ظل امتدادها الزمنى وتمددها الجغرافى، وتداعياتها الكبيرة التى تمس حياة ملايين البشر، فى كل دول العالم.
فلو نظرنا إلى الأزمة الأوكرانية، كنموذج للأزمات الدولية الراهنة، يرى الأمين العام أن مخاطرها تكمن فى عدم اقتصارها على ساحة الحرب فحسب، وإنما ميدان المعركة، فى واقع الأمر، هو العالم باتساعه، سواء عبر سلاح العقوبات الاقتصادية التى لا تدفع ثمنها روسيا وحدها، ولا حتى الأوروبيون الذين تألموا بشدة من آثارها العكسية، وإنما شعوب كثيرة عبر العالم عانت من آثار التضخم فى أسعار الطاقة والغذاء جراء استمرار الأزمة، موضحا أن تداعياتها لا تتوقف على الاستقرار والسلم العالمى وعلى الأوضاع السياسية والاجتماعية داخل الدول، بخاصة النامية والفقيرة بينها، وإنما يمتد إلى عودة الحديث عن استخدام السلاح النووى بعد أن كان خطر استخدامه، أو حتى التلويح به، قد تراجع وتضاءل لأربعة عقود على الأقل، موضحا أن انخراط قوة نووية كروسيا- على نحو مباشر - فى نزاع عسكرى بهذه الخطورة، يضع السلم العالمى على المحك أكثر من أى وقتٍ مضى.
وإلى جانب الصراع العسكرى فى أوكرانيا، فهناك صراع أخر يبدو أكثر تعقيدا، فى ظل طبيعته الجيوسياسية، بين الولايات المتحدة والصين، فى ضوء كونهما القوتين الاقتصاديتين الأهم والأكبر والأكثر تأثيرًا فى الاقتصاد العالمي.
يقول أبو الغيط أن الولايات المتحدة صارت تُجاهر باعتبار الصين خصمًا، بل تسميها خصمها الأول فى العالم، وهى تصوغ استراتيجية الأمن القومى الخاصة بها على هذا الأساس بهدف احتواء وتحجيم النفوذ الصينى المتزايد خاصة فى منطقة المحيطين؛ الهندى والهادى، ولكن ما يزيد الأمور تعقيدا أن الصين هى أيضًا الشريك التجارى الأول للولايات المتحدة وهى لا ترغب، مثل روسيا، فى مراجعة شاملة للنظام العالمى أو تقويضه، لأنها استفادت من هذا النظام فى تحقيق نهضتها الاقتصادية الهائل، لكنها تريد أن تلعب بقواعدها الخاصة، وليس بقواعد يضعها الغرب أو الولايات المتحدة، وبالتالى تسعى لاقتطاع مناطق نفوذ لها، خاصة فى مجالها المباشر، وتوظف فى ذلك أدوات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مختلفة.
والتوجه الصينى بتحويل القوة الاقتصادية إلى مكانة عالمية ونفوذ يتعدى حدودها وجوارها، والذى بدأ فى الأساس مع تولى الرئيس "تشى جينبنج" السلطة فى عام 2012، يضعها على خط مواجهة مع الولايات المتحدة، هكذا يرى الأمين العام، مما يحتم المواجهة بين القوتين العظميى، ولا مناص منها خاصة وأن الولايات المتحدة لن تتخلى بسهولة عن موقع الصدارة، وستباشر بدورها استراتيجية شاملة لإعاقة النمو الصينى، أو على الأقل إبطائه وتطويقه.
ووصف أبو الغيط تلك العلاقة المعقدة بين الصين والولايات المتحدة بالصراع البارد، خاصة على الساحة الاقتصادية، وهو ما يظهر بصورة جلية فى مجال التكنولوجية المتقدمة، وبخاصة قانون الرقائق الإلكترونية الذى تبناه الكونجرس والذى يحظر تصدير منتجات تكنولوجية بعينها للصين بل ويسعى إلى ضم أطراف أخرى إلى هذا الحظر لإحكام الحصار على الصين، معربا عن قناعته بأن التنافس، الذى دخل مرحلة الصراع، بين الولايات المتحدة والصين هو الأزمة الجيوسياسية الأخطر فى العصر الحالى، وأنه سيعيد تشكيل النظام العالمى على نحو عميق وجذرى، وستمتد تبعاته وآثاره إلى كل ركن من أركان المعمورة.
وبالإضافة إلى الصراعات الدولية، هناك صراع من نوع آخر، يتجسد فى "الصراع مع الطبيعة"، مع بزوغ ظاهرة التغير المناخى، والتى تمثل فى جوهرها تهديدا للكوكب بأسره، فى ظل مفاوضات صعبة، تزيد الأوضاع الدولية الراهنة من تعقيداتها.
يقول أبو الغيط أن الأزمة تبدو مرتبطة فى الأساس بالتزامات متبادلة وأعباء تتحملها الدول جميعها لتخفيف آثار الظاهرة، والحيلولة دون تفاقم ارتفاع درجة حرارة الكوكب، مشيرا للانجاز الذى تحقق فى قمة "كوب 27" التى عُقدت بشرم الشيخ العام الماضى، عندما تم الاتفاق على إنشاء صندوق للخسائر والتعويضات للدول المتضررة من آثار التغيرات المناخية، ولكن الأمر يحتاج إلى مفاوضات مُضنية من أجل تمويل الصندوق، وليس صعبًا علينا تصور مدى صعوبة هذه المفاوضات فى عالمٍ حافل بالأزمات السياسية والانقسامات بين عواصم القرار الدولي.
ولكن يبقى التساؤل حول أوضاع المنطقة العربية تحديدا، فى ظل نظام دولى يبدو مترنحا، جراء تواتر الأزمات يرى الأمين العام أن الأوضاع العالمية الراهنة، تعكس بدورها حالة من الأزمات المستمرة أو الممتدة، فالأزمات فى سوريا وليبيا واليمن مستمرة منذ أكثر من عقد، مع كلفة بشرية واقتصادية واجتماعية هائلة على المجتمعات والدول، وللأسف فإن هذه الأزمات جذبت أطرافًا دولية وإقليمية تُسهم فى استمرارها عبر مد الأطراف المتصارعة بالمال والسلاح والدعم السياس، معتبرا أن استمرار هذه الأزمات يُشكل نقطة ضعف خطيرة فى منظومة الأمن القومى العربى، ليس فقط بالنسبة للدول التى تُعانى منها، وإنما للدول العربية جميعًا، فالقوى الإقليمية تُمارس تدخلاتها غير الحميدة فى منطقتنا عبر هذه الثغرات والجراح النازفة فى الجسد العربى، وهى تجد لنفسها مواطئ أقدام، ومناطق نفوذ فى أجواء الفوضى والاضطراب الأهلى، بل أن بعض هذه القوى لا يتورع عن إذكاء نيران الفوضى وتأجيج الصراعات الطائفية تعزيزًا لمصالحه الخاصة، ودعمًا لنفوذه الإقليمى كما يتصوره.
ودعا أبو الغيط إلى استراتيجية شاملة للأمن القومى العربى لمواجهة هذه التحديات الإقليمية، وكذا الوضع العالمى المتغير بكل مخاطره، موضحا أن نقطة الارتكاز فى هذه الاستراتيجية تتمثل فى تعزيز الدولة الوطنية العربية، وبخاصة تلك الدول التى تواجه الأزمات وتحتاج -قبل أى شيء- إلى ظهير عربى مُساند لاستعادة الاستقرار والاسهام فى إحلال التسويات السياسية المطلوبة، ودرء مخاطر التدخلات الإقليمية والخارجية المُدمرة.
ولكن بالرغم من المخاطر، تبقى هناك فرصة مهمة أمام العديد من الأقاليم، حتى تقوم بدور أكبر على الساحة الدولية، فى ظل تعدد القوى الفاعلة، وصعود قوى جديدة قادرة على إنهاء حالة الهيمنة الأحادية، عبر تحقيق ما أسماه الأمين العام بـ "الاستقلالية الاستراتيجية"، عبر توسيع دائرة الخيارات والحركة أمام الدول والنظم الإقليمية المختلفة، غير أن التعامل فى بيئة متعددة الأقطاب وبهدف تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية يقتضى فى الأساس قراءة سليمة لاتجاهات التغير فى التوازنات الدولية، كما يتطلب أيضًا توازنًا دقيقًا فى إدارة العلاقات، إذ أن له مخاطره المفهومة.
واعتبر أن المنطقة العربية ليست بعيدة عن هذا التصور فى التعامل مع التغيرات العالمية عبر توسيع مجالات الحركة للاستفادة من الفرص المتاحة، ومن دون أن تتورط فى الانجرار إلى فخ الاستقطاب العال، مثلها فى ذلك مثل الكثير من دول الجنوب التى عبرت عن مواقف واضحة ترفض منطق الاستقطاب خلال الأزمة الأوكرانية، وربما كانت القمة العربية الصينية، وهى حدثٌ كبير وغير مسبوق عُقد للمرة الأولى فى الرياض فى ديسمبر الماضى، مؤشرًا على هذا النوع من التفكير الاستراتيجى غير التقليدي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة