"إن سعر السوق لأي سلعة وإن ظل زمنا طويلا أعلى من السعر الطبيعي، فهو قلما يظل طويلاً تحت مستوى هذا السعر"، آدم سميث، " 1723 – 1790"، عالم الاقتصاد الإنجليزي الشهير، في كتابه ثروة الأمم، وفي هذه العبارة يتوقف على فكرة هامة وهي أن من تتأثر مصالحهم بالخسارة نتيجة انخفاض سعر السلعة، أو حتى دورانها في محور السعر العادل سيعملون سريعاً على أن تعود الأسعار إلى مستوياتها المرتفعة، إما بتقليل الإنتاج أو حجم الاستثمارات التي يتم ضخها، وهذا ما يفسر دائما ارتفاع سعر السوق عن السعر الطبيعي لأغلب السلع.
فرضية آدم سميث تتفق تماماً مع الأسواق الحرة، التي لا تنحرف فيها مسارات العرض والطلب بفعل الاحتكار أو التلاعب، لكن هناك حالة أشبه بالسعار تجتاح السوق المصرية يقف خلفها المنتفعون، بدعم من مواقع إلكترونية مشبوهة، تدًعي كذباً أنها تضع قيماً عادلة لسعر العملة الصعبة في السوق السوداء، في حين لا نعرف من يدير هذه المواقع أو يشرف عليها أو يدفع لها، لتهدم الاقتصاد وتخلق حالة من السخط العام بأرقام مضللة، ولا تعبر عن الحقيقة.
لا يمكن لأحد في دولة بقدر مصر أن يعرف الحجم الحقيقي للطلب على العملة الصعبة وحجم المعروض منها، سوى شبكة البنوك التي تعمل تحت إشراف مباشر من البنك المركزي، وفق خطة عمل، وأنظمة شديدة الدقة والتعقيد، وتعتمد في ذلك على دورات مستندية تكشف حجم الطلب الحقيقي على العملة الصعبة والمطلوب منها لتلبية حركة الاستيراد من الخارج، بينما تقوم المواقع المذكورة بتسعير لحظي للدولار، وسلة العملات الدولية، دون أن نعرف مصدر تلك التقديرات صعوداً أو هبوطاً.
اختلاف سعر العملات الصعبة داخل البنوك عن السوق السوداء بهوامش معقولة أو بسيطة، أمر وارد في أغلب الظروف، لكن أن نصل إلى أرقام خيالية، تبنيها مجموعة مواقع إلكترونية، وحفنة من المنتفعين وتجار الأزمات يضعنا أمام تساؤلات عديدة حول ضرورة التصدي لهذه الظاهرة ومحاسبة المسئولين عنها نظراً لخطورة تأثيرها على الاقتصاد في الوقت الراهن، خاصة أنها تقدم تقديرات عن السوق وأسعار دون أن يكون لديها معلومات أو بيانات أو آليات عمل، أو تحليلات فنية يعول عليها، أو معلومات دقيقة عن حجم الموجود في الدولة من حصيلة العملة الصعبة.
أخطر ما قد يتم ترويجه في الوقت الراهن هو "تضليل الأرقام"، وأغلبنا بمجرد متابعة الشاشات وقراءة الأسهم الخضراء والحمراء يصدق دون مراجعة، ويقرر دون فهم أو دراسة حقيقة ما يتم عرضه من معلومات أو بيانات، وفي ظني هذا جزء كبير من أزمة سوق العملات الصعبة في الوقت الراهن، فالعملة موجودة ومتوفرة لكن مسارات الصرف ومعدلات الاحتفاظ بها لا يمكن إدراك تحركها الصحيح، نتيجة التلاعب والتسعير العشوائي، والرغبة في الاكتناز و الطمع الذي ينتظره البعض، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، لذلك يجب التنبيه لخطورة هذه المواقع وحجبها، ومحاسبة القائمين عليها، والوقوف خلف من يمولها لضرب الاقتصاد، ونشر الفوضى في الأسواق، خاصة أنها تؤثر على حجم الاستثمار الأجنبي، وتخلق المزيد من الضغوط على الطبقات الفقيرة، التي لن يتسنى لها تحمل الارتفاعات الضخمة في السلع والخدمات نتيجة التلاعب في أسعار العملة الصعبة.
خطورة التسعير العشوائي للعملة الصعبة أنها تنتقل شيئاً فشيئاً إلى الأسواق، وتنعكس على السلع والخدمات، خلال الوقت الراهن نتيجة عشوائية التسعير بات نادراً أن نجد سلعة بنفس السعر في مكانين مختلفين أو حتى متجاورين، فالكل يعتمد خطة تسعير مختلفة، يضع خلالها تصوراته المستقبلية وتكلفة الفرصة البديلة والتحوط من سعر السوق السوداء، وهو ما يجعل السعر الطبيعي أو العادل، أبعد ما يكون عن المطروح في السوق، ولنا في أسعار السيارات نموذجا، فالمعارض تغير الأسعار يومياً، بالإضافة إلى أنها تختلف في التسعير بفروق من 5 إلى 10% على الأقل.
التسعير العشوائي للعملات الصعبة يدفع السوق إلى فقدان حيويته، وتتحول معه حرية العرض والطلب إلى فوضى سعرية تأكل مدخرات الأفراد، وتزيد من معدلات الفقر، وتجعل الصناعات الصغيرة والمتوسطة أقل قدرة على تحقيق أرباح، وأكثر عرضة لتصفية نشاطها، لعدم القدرة على المنافسة والاستمرار وتوفير السيولة اللازمة، وسط احتمالات تراجع الطلب، أو ربما الركود الممتد، نتيجة غياب طبقات كاملة عن مسايرة الأسعار، خاصة السلع غير الضرورية.
نظرياً قد لا يتأثر كبار التجار أو شبكة الوسطاء، نتيجة التلاعب في دولار السوق السوداء، فالزيادات يتم تحميلها على المستهلك النهائي، لكن هذا الأمر لن يستمر على المدى القريب والمتوسط، فعندما تنسحب قطاعات اجتماعية كبيرة لها اعتبار في حجم الاستهلاك ولها النسبة الغالبة من القوة الشرائية، سوف تتأثر كل حلقات التجارة، فالمخاطر من الركود وتراجع الطلب تزيد بقوة مع وصول الأسعار إلى مستويات غير مقبولة، ويحدث معها في الغالب خلل في التوازن بين الدخول وحجم الإنفاق ومقدار المتوفر لديهم من السيولة، لذلك يجب التوعية بخطورة التسعير العشوائي للعملة الصعبة، وما يصاحبها من اكتناز للدولار، فهذه أشبه بنار تحرق الجميع، وحرب مُهلكة لا فوز فيها لأحد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة