فوجئ الجمهور بفنانه المحبوب الشيخ سلامة حجازى يسقط على المسرح، وهو يؤدى أحد أدواره الغنائية المشهورة، وكان ذلك بداية إصابته بمرض الشلل، عام 1909، والمثير أنه رفض أن يغلق فرقته المسرحية، أو يعتزل العمل المسرحى، وكان يقف على المسرح مسنودا إلى مقعد ويؤدى دوره فى المسرحية، وكأنما هو سليم معافى تماما، حسبما يذكر عبدالنور خليل فى كتابه «المعممون فى ساحة الغناء والطرب»، مضيفا: «كان حادث السقوط مريضا بالشلل على المسرح مؤشرا إلى بدء النهاية فى حياة المطرب الشيخ سلامة حجازى، رغم أنه لم يستسلم لليأس للحظة، وبدا يقاوم السقوط فى زاويا النسيان والبقاء على القمة ملء أسماع الناس وأبصارهم».
يضيف «خليل»: «فى عام 1911 اضطر إلى اللجوء إلى فرقة جورج أبيض «جوق التمثيل العربى»، ليكون نجما للمسرحيات الغنائية التى بدأت تقدمها على مسرح دار الأوبرا، وظل يعمل بها حتى 1914 عام الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك انسحب تحت ضغط المرض، وقعد فى انتظار النهاية الوشيكة إلى أن توفى فى 4 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1917، وبجواره واحد من تلاميذه الشبان يسمعه أسطوانة له غنى فيها قصيدة «حديث قديم» لشاعر القطرين خليل مطران».
كان هذا الشاب اسمه الدكتور محمد فاضل، وامتد به العمر حتى حصلت مجلة آخر ساعة منه على شهادة شملت ذكرياته مع أستاذه، ونشرتها فى عددها 1823 أول أكتوبر 1969، ويكشف فيها أنه ذهب إلى أستاذه صباح يوم وفاته، وحين رآه الشيخ سلامة، قال له: كنت أعلم أنك ستجىء يا فاضل، أنت ابنى وأخى وصديقى، أنت أخلص الناس الذين قابلتهم فى حياتى، واستند على كتف الشاب حتى وصل إلى مقعده، وطلب منه أن يسمعه قصيدة «حديث قديم»، وكانت من أحب القصائد إلى قلبه، وألفها خليل مطران بعد أن سقط مريضا، وكانت كلماتها حزينة، ويغنيها الشيخ سلامة على المسرح فتمتلئ عيناه بالدموع، وهى القصيدة التى غناها محمد عبدالوهاب فى مطلع حياته، وسجلها فيما بعد على أسطوانة.
وضع فاضل أسطوانة «حديث قديم» وأدار الجرامافون، وانطلق صوت الشيخ سلامة قويا شجيا، وعلت الابتسامة وجهه، وأغمض عينيه ونام فى هدوء، لقد مات، وكان عمره 65 عاما، فهو المولود فى الإسكندرية عام 1852 بعد أن وضع أساسا قويا للمسرح الغنائى، حسب رأى الناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى فى كتابه «تراث الغناء العربى بين الموصلى وزرياب وأم كلثوم وعبدالوهاب»، مضيفا: «استبدل بالزى الأزهرى زى الأفندية، وكان مؤذنا فى شبابه الأول، فلما احترف الغناء أحدث فيه ما يشبه الانقلاب، فلم يكتف بالغناء فى الأفراح والحفلات الخاصة، بل أنشأ مسرحا غنائيا ونقل الغناء من القصور والسرادقات إلى المسرح».
وبالرغم من قول «النجمى» أنه وضع أساسا متينا للمسرح الغنائى فإنه يقول: «مسرحه لم يكن فى الحقيقة غنائيا بالمعنى الفنى الدقيق، فقد بقيت ألحانه على الوضع الفنى القديم إلا فى القليل منها، وكان يغنى على المسرح كل ما يطلبه منه المتفرجون بغض النظر عن سياق المسرحية وقصتها، فإذا طلب الحاضرون منه مثلا ليالى ومواويل، قطع التمثيل وغنى لهم ما طلبوه حتى يكتفوا ثم يعود إلى ما قطعه من مسرحيته وحكايتها وألحانها ».
يؤكد «النجمى»: «لهذا السبب كان جمهور مسرحه يملأ المقاعد كل ليلة ليستمع إلى غنائه، ولم يكن هذا الجمهور يهتم بما يدور فوق المسرح من الأحداث الدرامية، ولا حتى يهتم بمتابعة أغانى المسرحية، فكان مثلا يقاطعه وهو يغنى «سلى النجوم أيا شرلوت عن سهرى» فى مسرحية «ضحية الغواية»، ويطلب أن يغنى ليال ومواويل، ويروى أحد أصدقاء الشيخ سلامة وهو الشاعر الكبير المرحوم إبراهيم الدباغ الفلسطينى الأصل من يافا، أنه دخل المسرح ذات ليلة فوجد صديقه سلامة يبحث عن بيت من الشعر يتضمن كلمة: «يا ليل »، لأن جمهور المسرح يريد سماع الليالى بدلا من سماع الأغانى المسرحية، فصنع له الشاعر الدباغ بيتا يقول فيه: «صبرت حينا على بين رميت به/ وأنت يا ليل لم تطلع سنا قمرى»، فأضاف الشيخ سلامة هذا البيت إلى أبيات «سلى النجوم أيا شرلوت عن سهرى»، ومضى يشنف أسماع الجمهور بغنائه يا ليل».
ويعلق «النجمى»: «هكذا كان سلامة حجازى فى غنائه المسرحى، وكذلك كان فى الأدوار مطرب بارع يغنى ألحان السابقين، ولا يخلق شيئا جديدا، بل يضحى بالسياق الدرامى لمسرحياته لكى يرضى أذواق بعض المستمعين»، ويضيف: «قبل وفاته حاول أن يقدم لجمهور مسرحه المطرب الجديد حينذاك، سيد درويش، ولكن هذا الجمهور رفض أن يستمع إلى المطرب الجديد، وكان لهذا الحادث دلالة، فالجمهور متشبع بصوت سلامة حجازى وهو جمهور الطرب القديم، الذى ينصرف عن الأسلوب الجديد الذى جاء به سيد درويش».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة