لو كان للموت قلباً؛ لأدركَ ما هو موت البنينَ!
ولو كان للموتِ عقلاً؛ سألناه كيف يفسر لنا موت البلابل والياسمينَ؟
إن صدى الموت، يختلف في نفوس الناس، يموت إنسان واحد، فيموت بموته مئات بل ألوف، بل يموت العالم بأكمله، بل تموت الحياة كلها في عين من يحب، وقد تدمع عين لم تحمل حزنا، وتحمل حزنا عين لم تدمع، تموت جارحة فينا، أننا نتضائل حين يموت من نحب، بل نحن نموت أيضا ببطيء شديد، ينتزع الموت منا جزءً بعد جزء، جارحة بعد أخرى، يملئنا بالفراغ، بمن يرحل عنا. أحاديث الموت المضني تملأ قلوبنا، الهواء ينقص، صوت الرياح يُرهب. من يرحل يترك نُدبة في الصدر، وقروح في القلب.
غرس موته في حدائق نفوسنا جذور الأحزان، صوته المتهالك، نظرته الخافتة، الإنطفاء، صعدت روحه الطاهرة إلى الملكوت، لم يعد إلا صوت الفناء يدوي من حولنا، متشحة دنيانا بلون الحداد، بلون الألم، انتزع الموت منا العقول والقلوب والأكباد، الموت لا يهادن، لا ينتظر، لا يوقف القطار، لا ينتقي، إن للموت صدى أليم في النفس، يشق برحاه الروح. نحن نقف أمام الموت، ويدانا مغلولتان، وأروحنا مقيدة، وقلوبنا تنزف دما أسود حزين، نقف أمامه في وجوم، وفي ذهول، إن صدى الموت يمتد عبر النفس إلى سنوات، ينكأ جراحاً، وسيلاً من الذكريات، في كل زاوية من زوايا النفوس، هنا مشينا، هنا أخذتنا أقدامنا إلى كل شيء..... الجلسات والضحكات والنقاشات والاختلافات، تطارد ذهني ابتسامته ضحكاته، كل شيء فيه، كان مؤهلا للحب، صوته كان مؤهلا للحب، كان تربة خصبة للعطف والرحمة، كلماته ناصعة البياض، صمته جميل، نظرة عينيه حانية، لم يكن إلا قوة جبارة في رضاه بما قسم الله له، كانت ساحات صدره الخاوية من الحياة، يمدها بالحب، كانت أنفاسه، تلهث لإلتقاط الكلمات، كان ممتلأ بالحياة، يفيض بها من صدره المنهك وقلبه الضعيف.
كأني بك أيها الموت، كتل من الشقاء الأبدي، الذي يهزم النفوس، ويلقي بها في أتون محترق، نتقلب على جمرها الملتهب. أقف صامتا غارق في ذهولي، أتحسس الفناء بيدي، في موت من أحب، أتضرع إلى النسيان. كنا نمضي خلفه نحمله فوق أكتافنا، نسير به إلى نهاية الطريق. تخطو أقدامنا خطوات الألم، نراه مُسجى في نعشه مُمدد، أُشير إليه، ولكنه لا يجيب، مغمض العينين، لا شعور، ولا حس، أحدثه في سري، وأنا امضي خلفه، أنين قلب يبكي، يتوجع في صمت رهيب، الجموع تسير خلفه، ونعشه تتناقله الأكتاف، ويمضي المئات خلفه، وتدور رءوسهم في عوالم بعيدة، تلتف حول قبره نفوس كثيرة، تمد يديها إلى السماء، تتضرع في خشوع، ليغفر ويمحو ويلطف، أهو من كان بيننا، وكيف كان، أقف أمام الجسد، أنصت لعل حديثا يخرج، أسمع ولو كلمة واحدة، أضع يدي فوق الجبين، على أطراف الأصابع، أتسمّع لعل نبضا يكون تائها. ماذا يفعل بنا الموت؟ كيف نصبح؟ لا شيء، سوى الهمّ، الذي يعترينا، صامتون ضعفاء،عاجزون، كان بيننا يتحرك في المكان، عبر الزمان، تختفي الإشارات، لم يعد سوى صدى الكلمات، التي قالها، نتذكر. كنا في يوم من الأيام الذاهبة وقد أنبتت فينا سنابل قمح، وحدائق عطر، ليالي كاملة، وصباحات لا تنتهي من البهجة، كان الموت والألم ينبش في صدره دون أن ندري، يدور في أنحائه، ينهش في أحلامه المتواضعة، كيف تمكن من صدره، كان يتنفس عطفا، كان صدره ساحات فسيحات لكل مكروب، رحم الله الجمال الذي كان ينبع من صدره المفطور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة