إن تراث الأمم هو ركيزة أساسية من ركائز هويتها الثقافية، وعنوان اعتزازها بذاتيتها الحضارية في تاريخها وحاضرها؛ ولطالما كان التراث الثقافي للأمم منبعا للإلهام ومصدرا حيويا للإبداع المعاصر ينهل منه فنانوها وأدباؤها وشعراؤها، كما مفكروها وفلاسفتها لتأخذ الإبداعات الجديدة موقعها في خارطة التراث الثقافي، وتتحول هى ذاتها تراثا يربط حاضر الأمة بماضيها، ويعزز حضورها في الساحة الثقافية العالمية، وليس التراث الثقافي معالم وصروحا وآثارا فحسب، بل هو أيضا كل ما يؤثر عن أمة من تعبير غير مادي، سواء كان شخصيات فنية أو أدبية لعبت أدوارا مهمة في حياتنا، أو فولكلو، وأغان وموسيقى شعبية وحكايات ومعارف تقليدية تتوارثها الأمة عبر أجيال وعصو، وكذا تلك الصروح المعمارية المتعددة والمختلفة، وتلك البقايا المادية من أوان وحلي، وملابس، ووثائق، وكتابات جدارية وغيرها؛ إذ كلها تعبر عن روحها ونبض حياتها وثقافتها.
من هذا المنطلق أدرك الكاتب الصحفي (وائل السمري) رئيس التحرير التنفيذي باليوم السابع، أن التراث هو من ركائز هويتنا الثقافية فأطلق حملته "لن يضيع" التي تعنى بالحفاظ على تراث بعض نجوم الفن والأدب في مصر، تأكيدا على أن التراث هو تراكم خبرة الإنسان في حواره مع الطبيعة، وحوار الإنسان مع الطبيعة إذ يعني التجربة المتبادلة بين الإنسان ومحيطه، وهذا المحيط الذي يضم حتى الإنسان الآخر فردا كان أم جماعة، فالتراث على مايبدو من وجهة نظر (السمري) يعني كل مفهوم يتعلق بتاريخ الإنسان في تجارب ماضيه، وعيشه في حاضره، وإطلالته على مستقبله، أما التراث الحضاري والثقافي فهي الممتلكات والكنوز التي تركها الأولون، حيث هى السند المادي واللامادي للأمم والشعوب؛ من خلالها تستمد جذورها وأصالتها، لتضيف لها لبنات أخرى في مسيرتها الحضارية، لتحافظ على هويتها وأصالتها.
ولأنه (وائل) شاعر بالأساس يشتغل على المشاعر الإنسانية، فقد أدرك من خلال تعرضه للبحث والتنقيب حول ضياع مقتنيات الفنان الكبير والإعلامي (سمير صبري)، وكذلك العبث بمقتنيات الفنان التشكيلي (حسين بيكار) وكذلك الدكتورة (نعمات أحمد فؤاد)، أدرك خطورة ضياع تراث هؤلاء الذين أثروا حياتنا الفنية اللأدبية والثقافية، فقد أطلق حملته (لن يضيع) للحفاظ على تراث الفنانين والأدباء في مصر والتي تحمل، ليؤكد لنا على أن التراث يمثل الذاكرة الحية للفرد وللمجتمع، ويمثل بالتالي هوية يتعرف بها الناس على شعب من الشعوب؛ كما أن التراث بقيمه الثقافية، والاجتماعية يكون مصدرا تربويا، وعلميا، وفنيا، وثقافيا، واجتماعيا.. ذلكم أن تراكم الخبرات لدى نجوم الفن والأدب يكون الحضارة، وتراكم المعلومات حول أعمالهم التي تضيء الشاشة أو اللوحة أو حتى سطور في كتاب وآثارهم يكون الذاكرة.
وهذه الذاكرة بدورها وكما تقول: الباحثة (تمبل كريستين) في كتابها "مدخل إلى دراسة السيكولوجيا والسلوك" هى التي تمكننا من فهم العالم، بأن تربط بين خبرتنا الراهنة، ومعارفنا السابقة عن العالم وكيف يعمل، ولهذه الذاكرة كما للتراث الثقافي الذي ننادي بالحفاظ عليه علاقة طردية مع الإبداع لدى الأفراد والمجتمعات، حيث أن لكل شعب موروثاته الخاصة به، والتي توارثها شفهيا، أو عمليا، أوعن طريق المحاكاة .. ليكون بمثابة فنون نتجت عن التفاعل ما بين الأفراد والجماعة، والبيئة المحيطة خلال الأزمان الماضية، ومع مرور الزمن تحولت إلى إنتاجٍ جماعي يختزن خبرات الأفراد والجماعات، وبقدر ما هو مخيال للجماعة فإنه جدار متين لحفظ هويتها، ومحرك لها في الاستمرارية والوجود.
ومن أجل الحفاظ على هوية الأمة وذاكرتها سعى (وائل السمري) بكل ما أوتي من قوة ليطرق كل الأبواب التي تضمن نجاح (حملته) وبدأ طريقه من بوابة وزارة الثقافة المصرية، حيث استقبلته الدكتورة نيفين الكيلانى، وزيرة الثقافة المصرية، فى مكتبها بالزمالك فى إطار رعاية الوزراة لحملة "لن يضيع" التى أطلقتها جريدة اليوم السابع تحت رعاية وزارة الثقافة، وقدم السمرى خلال اللقاء مشروع حملة "لن يضيع" للحفاظ على تراث رموز مصر، بإنشاء مؤسستين ثقافيتين جديديتن هما "متحف الخالدين" لعرض مقتينات الرموز فى سيناريو متحفى مبهر، و"مركز تراث رموز مصر" لصيانة وترميم وتسجيل ودراسة هذا التراث.
ونحن نتحدث عن حملة "لن يضيع" لابد أن نثمن جهود (وائل السمري) في تصديه للحفاظ على ذاكرة مصر الحية من خلال بحثه الدؤوب حول ثلاثة شخصيات أثرت الوجدان المصري وإبداء ملاحظاته الخاصة حول تلك الشخصيات أولهما الفنان الكبير والإعلامي (سمير صبري) حيث جمع الكثير من مقتنياته قائلا: كان هنا تاريخ تم محوه.. جولة فى مخبأ سمير صبرى السرى الذى كان يحتفظ فيه بأرشيفه الكامل كشفت حجم الإهدار الذى تعرض له، و"حصلت على صور خاصة مع أصدقائه وصور لتوثيق الأفلام مثل صور الكواليس وكذلك صور لأفيشات الأفلام سواء التي يتم وضعها داخل السينمات أو في الشوارع.. وصور قديمة منذ 50 و60 عاما.. وكذلك دروع تكريم حصل عليها.. وصور صغيرة وشريط كاسيت"، وهذه الأشياء كانت في حوزة أقاربه لأنه لم يكن لديه ورثة أو أخوات.. ما حصلت عليه لا يزيد عن 5% بالكثير من تراث ومقتنيات سمير صبري المفقود.. وأنا ذهبت إلى شقته وشوفت بنفسي شقته فاضية من ايه.. الحاجات والمقتنيات كانت محطوطة فين وبقت فاضية".
والشخصية الثانية كانت الدكتورة (نعمات أحمد فؤاد) التي كتب عنها قائلا: نعرفها جميعا، بملامحها الواضحة المميزة، وصوتها الخفيض الذى يفيض أدبا ورقة، ومعاركها الأدبية والصحفية الصاخبة، وعشقها لمصر وتاريخها وحاضرها وفنها، نعرفها صحفية لامعة، ومؤرخة فنية رائدة، وشخصية نسائية برزت فى وقت استثنائى، قالوا عنها "صوت النيل" وأطلقوا عليها اسم "عروس النيل" وقد أنفقت جزءا كبيرا من عمرها لدراسة نهر مصر الخالد واكتشاف أثره فى الأدب والشعر، أما محل فخرها الدائم فكان تلمذتها على يد العقاد وأحمد حسن الزيات ولطفى الخولى، وثروتها الحقيقية كانت "المعرفة" حتى أنها تزوجت زوجها "محمد فؤاد طاهر" بعد أن قال لها صديق إنه تعرف إلى رجل يقرأ أكثر منها، فتزوجته مباشرة دون أن تسأل عن شبكة أو مهر.
وفي رحلة بحثه عن تراث الدكتورة نعمات أحمد فؤاد يصدمنا (وائل) بقوله: قل إنه القدر، أو قل إنه "الغفلة" أو قل إنه الإهمال، قل ما تشاء، فقد قال الزمن كلمته، وقد أبدت لنا الأيام ما كان خافيا، وأتت لنا المحاكم بما خفى من أخبار، وفى حين أنه كان من المفترض أن نحتفل بعد أيام قليلة بذكرى ميلاد الكاتبة الكبيرة "نعمات أحمد فؤاد" الـ99، التى ولدت فى 25 يناير 1924، وأن نعد العدة من الآن لإحياء مئوية ميلادها فى العام المقبل، لكن القدر حمل لنا مناسبة أخرى لنتذكرها بمزيد من الحزن، بدلا من أن نتذكرها بمزيد من الحنين، فبنسبة كبيرة أوشك تراث الراحلة العظيمة على الضياع إن لم نتحرك سريعا لإنقاذه، وقد أصبح الآن رقما فى محاضر الفرز، و"بضاعة" فى جداول المحضرين.
تشمل قائمة مقتنيات الدكتورة "نعمات أحمد فؤاد" العديد من مفردات الأثاث المختلفة، لكن اللافت للنظر هو أنها تشمل أيضا العديد من مفردات التراث وثيقة الصلة بالكاتبة الكبيرة، وكل هذه المقتنيات بالطبع معرضة للبيع إذا ما عينت المحكمة خبيرا للتثمين أو قررت بيعها فى المزاد العام، ولا يهمنا هنا ما يمكن أن نطلق عليه وصف "عفش" أو "أثاث"، لكن يهمنا ما يقع فى دائرة المقتنيات الثقافية، إلى جانب "أرشيف" الكاتبة الذى وإن كان لم ينص عليه صراحة ولكنه بالطبع سيكون ضمن محتويات مكتبتها الخاصة المعروضة للتثمين، ومنها الكثير من المقتنيات الثمينة منها (بيانو schumann»، لوحة النيل للملكة فريدة هدية خاصة، جدارية حاملات القرابين طبق الأصل من قسم النماذج المتحف المصرى، تمثال جامعات العنب من حديد، ومورانو فرنسى، سجادة فارسى، سجادة 3.55 فارسى قديم، تمثال مرمر فينوس، مكتبة حرف U طولها نحو 8 أمتار تقريبا، ترابيزة عربى من أعمال أسعد نديم.
هذا فضلا عن لوحة الأمل هدية من صلاح طاهر، لوحة الرزق من أعمال صلاح طاهر، بورتريه د. نعمات من أعمال صلاح طاهر، بورتريه فينان من أعمال حسين بيكار، دائرة المعارف البريطانية عام 1964 تقريبا، مركب الشمس - نموذج هدية من الفنان شادى عبدالسلام، لوحة البحر زيت بريشة فنان فرنسى، مكتب فرنسى كروازية قطعة خشب واحدة وكرسيه، طاولة متحفية عليها تاريخ العالم من قبل التاريخ وحتى الحرب العالمية الأولى، عدد 2 سجادة توأم كرمان نادرة، دولاب أرابيسك قديم مطعم بالصدف وبه 4 مكتبات بها كتب قيمة بعضها بخط يد د. نعمات،ناهيك عن مكتبة بها عدد من الكتب القيمة، وغيرها من تماثيل وسجاجيد وشرائط كاسيت لكوكب الشرف أم كلثوم ولوحة للكاتبة برئيشة صلاح طاهر.. إنه باختصار غيض من فيض من تراث الكاتبة العظيمة عاشقة مصر والنيل.
أما الشخصية الثالثة التي حقق فيها (وائل السمري) فكانت الفنان التشكيلي الكبير (حسين بيكار)، الذي يرثيه بعذوبة قائلا: من يرى صورة الفنان الكبير حسين بيكار، يرى بلا شك هذا الصفاء الكبير ويستطيع أن يؤكد دون أن يعرفه أو يراه أنه كان من الشخصيات الهادئة الوديعة، وهو أمر يؤكده كل الذين تعاملوا معه أو تعرفوا إليه عن قرب، حتى أنه كان يضرب به المثال فى دماثة الخلق والابتعاد عن الانفعال، فيقال عنه أنه كان يستأذن فى كل شىء حتى إذا أراد أن يلقى عليك السلام يقول لك: من فضلك أخبارك إيه؟ وضبط ذات مرة متلبسا بالانفعال على أحدهم قائلا له من فضلك عيب كده.
هذه الحكاية الأسطورية أصبحت ملتصقة ببيكار طوال الوقت، وهو الحالم المتأمل الغارق فى خيالاته وأحلامه وألوانه المنسابة وكأنها توأم النيل والسماء والزرع والبحر، لكن فى الحقيقة فإن أوراقه الشخصية التى ننشرها هنا أثبتت لى أن تحت هذا الهدوء الأصيل والسكينة الشهيرة عشرات المعارك، ومئات الأفكار، وأستطيع أن أقول بكل ثقة أن عقل بيكار العميق لم يعرف الهدوء يوما، خلافا لما يظهر من وجهه، وخلف هذا الوجه الذى يشبه وجوه أبطال أساطير الحكمة كون كامل من المتناقضات.
ومن بين مئات الورقات التى تركها بيكار خلفه، نلمح تلك الورقة التى وضع لها تاريخا مميزا هو 11 سبتمبر 2002 أى قبل وفاته بحوالى شهرين فحسب، مما يرحج أن تكون تلك الخواطر هى آخر ما كتبه بيكار، فى حياته، وقبل أن يرحل عن عالمنا فى 16 نوفمبر 2002، وهى خاطرة أشبه بالموال الذى يغنيه بيكار لنفسه، ويرتحل فيه إلى الجنوب حيث قضى جزءا من عمره ثم إلى الإسكندرية حيث ولد وتربى،
إلى هنا انتهت رحلة (وائل السمري) مع ثلاثة شخصيات لعبت دورا مهما في حياة المصرين فاستحقت التكريم بالحفاظ على تراثها، وهو ما دفع (وائل السمري، لإطلاق حملة "لن يضيع" التي قال عنها أنها لا تخص الفنانين فقط ولكنها للشخصيات العامة والأكاديميين والرياضيين وكافة رموز مصر"، متابعا: "مش عندنا أرشيف ونجد صعوبة في البحث للوصول عن معلومات موثقة عن هذه الرموز.. ونحتاج إلى المزيد من الاهتمام بثقافة التوثيق".. فتحية لوائل السمري على حسه الوطني و تقديرا لحملته التي تستحق كل الاحترام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة