يبدو المشهد المشين، الذي شهدته العاصمة السويدية ستوكهولم، عندما أقدم أحد الساسة على إحراق المصحف الشريف، بمثابة تكرارا لمشاهد أخرى، على مدار سنوات، خلال العقدين الماضيين، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، حملت ازدراءً صريحا للدين الإسلامي، بدءً من القس الأمريكي تيري جونز، والذي تزامنت فعلته مع حملة شعواء أطلقتها بلاده مع الحرب الأمريكية على الإرهاب، في العقد الأول من الألفية، والتي خلطت في طياتها بين الدين والأفكار التي تروج لها الميليشيات المتطرفة، مرورا بالرسومات المسيئة، في بعض الصحف الغربية التي أثارت امتعاض مسلمي العالم، لتشهد بعد ذلك تطورا جديدا، في نيوزلندا، بقتل المصلين في مدينة كرايست تشيرش، بأحد المساجد، في شهر مارس 2019، وهي المشاهد التي وإن بدت متقطعة، إلى حد ما، إلا أنها في واقع الأمر مرتبطة بما يسمى ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، حيث تعد مثل هذه الأفعال نتيجة مباشرة لها، في إطار توقيتها المتزامن، في البداية، مع حملات إعلامية شعواء ضد الإسلام والمسلمين في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، بينما ساهمت في تأجيج تلك الظاهرة داخل المجتمعات الغربية، في ظل ما أسفرت عنه من غضب بين المسلمين في الداخل، وخلق حالة من الاحتقان المجتمعي.
وربما يبقى الحديث عن حالة الخلط، بين الإسلام والأفكار المتطرفة، التي تروج لها جماعات الظلام، باعتبارها السبب الرئيسي في تفاقم "الإسلاموفوبيا"، وما ارتبط بها من أفعال مشينة، أقدم عليها بعض الساسة تارة، بينما انغمس فيها رجال دين متطرفين تارة أخرى، تساهم إلى حد كبير في اتساع دائرة جرائم الكراهية، في ظل مشاهد أخرى كانت بمثابة "حلقات وصل" بين تلك المشاهد المنقطعة، كالتحرش بالمسلمين في الشوارع هنا أو هناك، والاعتداء عليهم، من قبل أناس عاديين، وصولا إلى الذروة في حادث نيوزلندا، والذى قتل فيه أكثر من 50 مسلم، بينما كانوا يتقربون إلى ربهم بالصلاة، وهو ما يمثل انعكاسا لـ"طردية" العلاقة بين هذه الأفعال، والجرائم الكبرى، التي من شأنها زلزلة أركان المجتمع، وإثارة الفوضى داخله، إلى الحد الذي يصل إلى الصراع.
وهنا نجد أن ثمة وجها أخر لحالة الازدواجية، تبدو في التعامل مع الظاهرة والعوامل المرتبطة بها، من قبل السلطات الحاكمة، حيث تقع حالات الازدراء، سواء التي تتبناها المنصات الإعلامية عبر الاساءة للاسلام، أو الأفعال غير المسؤولة، على غرار المشهد الأخير في السويد، في نطاق حرية التعبير، التي لا تمثل انتهاكًا للقانون، على الرغم من كونها السبب الرئيسي وراء ارتكاب الجرائم، على شاكلة مجزرة نيوزلندا، بينما تفسر في الوقت نفسه نجاح الميليشيات المتطرفة، ومنها تنظيم داعش الإرهابي، في استقطاب مئات المسلمين في الغرب، لاستخدامهم في تنفيذ عمليات في قلب بلدانهم، وهو ما يحمل، في جزء منه، نزعة انتقامية، جراء ما واجهوه لسنوات، سواء من اساءات أو انتهاكات، ناهيك عن التهميش، الذى استهدفتهم على أساس ديني
تلك الحالة المزدوجة في التعامل مع الحرية المطلقة وغير المسؤولة من قبل شخوص معتبرين في المجتمع من جانب والقانون من جانب أخر، ربما عبر عنها رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون، في معرض إدانته للسلوك السافر الذي أقدم عليه أحد الساسة المنافسين له، عندما أكد على أن مثل هذا العمل "غير محترم"، ولكن ليس كل ما هو قانوني يكون مناسبا، على حد قوله في اعتراف ضمني بـ"قانونية" الفعل، مما يعكس حالة من التعارض في المفاهيم، إذا ما وضعنا في الاعتبار النتائج التي قد تترتب على مثل هذا السلوك، في ظل معطيات يسردها الماضي القريب، في ظل القيام به من قبل شخصية سياسية، من المفترض أن يكون لها مؤيدين مع اتساع نطاق التأييد لتيارات اليمين المتطرف في أوروبا خلال السنوات الماضية، بسبب الظروف والأزمات المستحدثة، المحيطة بهم، والتي عجزت السلطات الحاكمة على التعامل معه، على غرار الوباء، أو تداعيات الأزمة الأوكرانية.
الازدواجية بين "قانونية" السلوك المؤجج للمشاعر، والذى يرقى لدرجة الفعل العلني، تحت مظلة حرية التعبير، من جانب، والجرائم التي ترتكب كنتيجة له، يمثل ثغرة حقيقية تواجهها مبادئ الحرية المطلقة التي طالما روج لها الغرب طيلة العقود الماضية، ولكنها توارت لسنوات وراء حالة أعم من الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ساهمت في احتوائها، إلا أن الأوضاع الراهنة، جراء الأوضاع المتأزمة عالميا، نتيجة الأزمات التي ضربت قطاعات حيوية، تتلامس مع حياة المواطنين، قد تدفع بقوة نحو بروز حالة عميقة من الانقسام، والذي لن يقتصر بأي حال من الأحوال على أساس ديني، وإنما يبقى ممتدا ليشمل العرق أو الجنس، وحتى بين المختلفين عقائديا بين أبناء الدين الواحد، وهي الانقسامات التي تجد لها جذورا في تاريخ الغرب، على غرار حرب الثلاثين عاما في أوروبا، والتي اندلعت بين البروتستانت والكاثوليك، في القرن السابع عشر.
وهنا يمكننا القول بأن تنامي "الإسلاموفوبيا"، في الغرب يمثل نتيجة مباشرة لحالة من الازدواجية ، ذات مسارات متعددة، منذ بداية ظهورها، منها ازدواجية الحرب على الارهاب، عبر الخلط بين الدين والافكار المتطرفة وكذلك حالة الازدواجية بين الحرية المنفلتة التي يجيزها القانون، والجريمة، وهو ما يفتح الباب امام أزمات أعمق في المجتمعات الغربية، في ظل حالة من الاستقطاب تؤججها الازمات الراهنة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة