رسالة قوية من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لشعبه، مفادها أن زمن الوفرة قد ولى وفات، في ظل العديد من التحديات، التي أسميتها في مقالات سابقة، "تحالف الأزمات"، إثر حالة من التزامن بين صراعين، أولهما تقليدى بين الشرق والغرب، على الأراضي الأوكرانية، يمثل امتدادا للتاريخ الدولي، بينما يبقى الأخر مع الطبيعة، وهو الأخطر على الإطلاق، إثر ظاهرة التغيرات المناخية، والتي اطلقت حربها على العالم، في صورة حرائق تارة وجفاف تارة أخرى، وفيضانات تارة ثالثة، ناهيك عما يستجد من كوارث، على غرار الوباء، الذى عجز عن مواجهته أعتى الدول الاقتصادية.
ولعل حديث ماكرون عن نهاية "زمن الوفرة"، يمثل ترجمة حقيقية لواقع دولي حقيقي، لا يقتصر على منطقة بعينها، وغير مرهون بظروف محددة، بينما يجسد في الوقت نفسه، التحدى الذي تواجهه دول العالم "المتقدم"، خاصة في أوروبا الغربية، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها الحرمان، أو على الأقل تقليص الدعم القادم من أمريكا، تزامنا مع دخول دول القارة جغرافيا في منطقة الصراع، فلم تعد التهديدات التي تواجهها مستوردة من الخارج، وانما باتت تنبت من التربة الأوروبية نفسها، وانعكاسا لحالة من الإهمال، سواء في التعامل مع التهديدات التي واجهت مناطق أخرى من العالم أو مع الطبيعة، التي عانت كثيرا بسبب ما يمكننا تسميته بحالة "الشراسة" التنموية على حساب التوازن، سواء البيئي، أو الدولي، وهو ما يبدو في سياسات قامت على استنزاف موارد دول فقيرة لتحقيق طفرات اقتصادية لديهم.
المعضلة، من وجهة نظر ماكرون، تتجسد في تأهيل الفرنسيين لزمن "نقص الوفرة"، ويبدو محقا تماما في ذلك، في ظل الحاجة الى زيادة الوعي الشعبي بأهمية الترشيد، والذي أصبح بمثابة "توجه" عالمي، لمواجهة التحديات الكبيرة، المرتبطة بأمن الغذاء والمياه والطاقة، ناهيك عن مخاوف امتداد الصراع المسلح مع اقترابه جغرافيا من مناطقهم، مع اندلاع الازمة الأوكرانية، وهو ما يتطلب تضافر جهود حكومية جنبا إلى جنب مع حالة من الدعم الشعبي لتلك الجهود، بعيدا عن لغة الفوضى القابلة للانفجار حال تصاعد وتيرة الازمات سالفة الذكر، مما يزيد الامور تعقيدا، خاصة إذا ما نظرنا إلى ما شهدته عدة دول أوروبية، في السنوات الماضية، من موجات من الاحتجاجات والعنف والمطالب غير المألوفة في الدول الديمقراطية، والتي وصلت إلى حد المناداة بعزل حكومات وبرلمانات منتخبة، وهو الأمر القابل للتفاقم حالة عدم احتواء الامور مبكرا.
إلا أن ثمة وجها آخر للمعضلة التي تواجهها أوروبا ومن ورائها الدول المتقدمة، وهو "الحاجة إلى التوازن"، وهو ما ينبغي أن يشمل العديد من المجالات، ليس فقط على المستوى المحلي، وإنما يمتد من إدارة علاقاتها الدولية، مع بزوغ مرحلة جديدة في النظام الدولي عبر الاعتراف بالتعددية التي أصبحت أمرا واقعا وبالتالي إدارة التحالفات بصورة مختلفة عن الماضي، مرورا بالعملية التنموية نفسها والتي تحتاج إلى العمل مع مراعاة أبعاد عدة منها مواجهة خطر التغيرات المناخية ومصالح الدول النامية التي عانت تهميشا كبيرا دام لعقود طويلة، وحتى التوازن البيئي عبر تقديم تنازلات كبيرة تتعلق بتقليص الانبعاثات، بينما يزداد الأمر تعقيدا مع ضرورة العمل على المسارات الثلاثة بصورة متزامنة.
وبين التوازن والتزامن، تبقى الحاجة إلى تعامل مختلف من قبل القادة الدوليين، بعيدا عن السياسات التقليدية، والتي باتت في حاجة إلى تغيير هيكلي، مع عدم جدواها نظرا لتغير المفاهيم الدولية، بصورة جذرية، وهو ما يبدو على سبيل المثال في عجز دبلوماسية العقوبات، عن ردع "المارقين"، وكذلك فشل سياسات الدعم الاقتصادي عن حشد الدول في خانة "التابعين"، وبالتالي تتجلى الحاجة إلى تغيير الرؤى عبر التحول نحو المزيد من التواصل مع الدول "المارقة" وتعميق المصالح المشتركة معهم، لتغيير مسارهم أو تعديله، بينما تتحول سياسة الدعم إلى شراكة حقيقية لتحقيق التوازن التي باتت تحتاج إليه الدول المتقدمة أكثر من غيرها.
وهنا يمكننا القول بأن مواجهة "نقص الوفرة" يتطلب تحقيق حالة من التوازن الشامل والكلي، بعيدا عن حالة التنظير والفوقية، التي تبنتها دول العالم "المتقدم" في مواجهة محيطها الدولي، لتتحول نحو "الشراكة" خاصة وأن المخاطر الجديدة لم تعد قاصرة على فئة بعينها على غرار الماضي، ولكنها أصبحت ممتدة وشاملة، وتهدد الجميع دون تفرقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة