منذ أربع سنوات تقريبًا سافرت فى رحلة عمل إلى المغرب مع المنتجة دينا أبو زيد، كنا قررنا خلالها عمل فيلم قصير عن "مقهى ريك" فى الدار البيضاء، لم يتم المشروع مع الأسف رغم أننا صورنا جزءًا كبيرًا منه، وهذا موضوع آخر، لكن الأهم كان اختيارنا لهذا المقهى بالذات، لما يحمله من خيال يخص المدينة، ابتدعته السينما ورسخته ككيان مرهف وباهر في الوجدان الشعبي والجماهيري.
الدبلوماسية الأمريكية الراحلة كاثي كرايجر، صنعت من فكرة خيالية حضورًا ملموسًا على أرض الواقع، بأمل يستعيد أجواء المقهى الذي تركزت فيه أحداث الفيلم الأمريكي الشهير "كازابلانكا"، أحد أهم كلاسيكيات السينما العالمية، أخرجه المجري مايكل كورتيز في العام 1942، سيناريو: جوليوس أبشتاين - فيليب أبشتاين - هوارد كوتش، عن مسرحية "الكل يحضر إلى مقهى ريك" تأليف موراي بيرنيت وجوان أليسون.
لما دخلت المقهى في زيارتي الأولى، لم أخفِ دهشتي بأناقته الزائدة، لكني كنت مشغولة بمحاولتي في إيجاد خيوط الارتباط بينه وبين المقهى في الفيلم، تفاصيل كثيرة تتماهى مع الفيلم منها الطاولات الخشبية العتيقة والمصابيح المزخرفة بالخزر والزجاج الملون، وأهمها الـ "بيانو" الأصلي من ثلاثينيات القرن الماضي، ما يعيد لي وجه دولي ويلسون وهو يعزف بيانو المقهى في الفيلم، عملت على ضبط تنفسي اللاهث، ووازنت في ايقاع نبضي المتذبذب، بينما كان الموسيقي المغربي عصام شبعة، يعزف أمامنا المقطوعة الموسيقية للفيلم، وأنا أردد بداخلي: "إعزفها لي يا سام"، على طريقة إنجريد برجمان بطلة الفيلم.
تُعرف كازابلانكا من الغرباء الذين حطوا على أرضها، واعتبروها محطة للهروب من واقعهم البائس، وتُعرف أيضًا من الصخب العسكري الذي شارك فيه كل قوى الحرب المستنفرة على خط أحمر وفوهة بندقية، كذلك تُعرف في هذا الفيلم من موسيقى تتسلل على خلفية قصة حب تلتمع وسط كل هذا الركام، من ريك وإلسا المعذبين بين اختيارين: القلب والواجب.. كازابلانكا هنا تتواصل مع غرباء الوطن والحب، يتناثر في أجوائها الخرافة والخوف والسعادة والمغامرة والحرب.
في القرن الخامس عشر الميلادي كان يوجد منزلًا بلون أبيض يساعد البحارة البرتغاليين على تحديد موضع المدينة، من هنا جاءت تسمية المدينة بـ"الدار البيضاء" بدلًا من "أنفا" اسمها القديم، وهي القمة أو التل، كانت دارًا يمر عليها البحارة والمسافرون والعابرون من أجل التزود للرحلة والطريق، مجرد ميناء مغربي صغير لا يثير الانتباه على ساحل المحيط الأطلسي، حتى أصبحت أثناء الحرب العالمية الثانية، جسرًا للعبور والهرب، الحد الفاصل بين جحيم النازي في أوروبا ونعيم الحرية في أمريكا، كما شاهدناها في فيلم "كازابلانكا".
أول شيء قد يسترعى الانتباه بمجرد النطق بعنوان الفيلم هو الولع بالمغرب كموقع تصوير، لكن المدهش أنه ولا مشهد واحد تم تصويره في الدار البيضاء أو في أي مكان آخر في المغرب، إنما في ستوديوهات هوليوود، فهو فيلم لا يحمل من الدار البيضاء سوى الاسم، وربما هذا يبرر فقر التصوير الخارجي في المدينة الحقيقية والاكتفاء بنموذج متخيل عنها، فأغلب الحكاية تدور في مقهى وأماكن مغلقة، وقد يفسر هذا أيضًا كيف أن الصور التي جاءت في المقدمة كانت تشي بأمر في الصياغة البصرية للمكان والمدينة، وهو ما لم يحدث.
هنا حب قد يختل معه التوازن إذا لم نسمع حكايته لآخرها، العلاقة بين طرفيه كانت ضرباً من الغيب وصدى لأحوال صعبة في عالم المؤامرات والقتلى والمجهولون والحرب، إلسا وريك (إنجريد برجمان وهمفري بوجارت) هما ظلان ينفتحان وينغلقان على ما تشكل من تفاصيل هذا العالم الملتبس والمشدود بين ثنائية الحرب والمقاومة، يسعى الحبيبان الغامضان إلى ضفة أمان تنتشلهما من براثن الـ"جستابو" وقوات النازية الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية، لكنهما يتوهان بين أمواج السياسة وهوس من شأنه أن يفرق بينهما، فيصبح هناك مبرر للغزهما المشترك، بينما كان سام يعزف على البيانو ويغني “As The Time Goes By”:
إنها لا تزال نفس القصة القديمة/ كفاح من أجل الحب والمجد/حالة من الفعل أو الموت
العالم سيرحب دائماً بالعشاق/ مع مرور الوقت..
الأغنية الشهيرة التي ارتبطت بالنجم الأمريكي من أصل أفريقي دولي ويلسون (1886 - 1953) حين قدمها في هذا الفيلم، على الرغم من أن مؤلفها هيرمان هوففيلد كتبها عام 1931، وغناها كثيرون غيره ومنهم فرانك سيناترا، كانت هذه الأغنية روح الفيلم ولها سطوتها الرومانسية في ظل أجواء الحرب الكئيبة، كما أن دولي ويلسون أداها ببساطة وعاطفية، تجلب بعض الأمل والفرح، ما يجعل من يسمعها يتنفس الصعداء مع كل حركة من هذا الفنان المعروف كممثل ومغني وموسيقي وعازف طبول، لكنه في الفيلم يعزف البيانو فقط ويغني أغنيات مبهجة.
يواصل سام أغنيته:"القلوب مملؤة بالعاطفة"، بينما تقول إلسا لريك وهما يشهدان من نافذة علوية بوادر دخول القوات الألمانية إلى باريس: "العالم كله يتحطم ونحن نقع في الحب"، إذ تختفي بعدها وتخلف وعدها له بمغادرة باريس معه، تتركه على رصيف محطة القطار وحيدًا مع سام ورسالة قصيرة تخبره فيها أنها لن تهرب معه ولن تراه مرة أخرى، هكذا تهجره بدون أسباب واضحة، تدعه فريسة لهواجسه حتى يدبر لهما القدر لقاءً جديدًا في الدار البيضاء بالمغرب، كان لابد من مواجهة بين الحبيبين الغريبين، إنتهت بصورة إنسانية تتلائم مع زوجة وفية وحبيب اختار ألا يعيش كضحية أو كسارق، التضحية كانت منعطف الدرب الجديد الذي تفرق الحبيبان على رأسه، تاركين أثرهما البالغ في نفوس جماهير منحت "كازابلانكا" شعبية منقطعة النظير، الفيلم الذي أصبح علامة بارزة للرومانسية والحب، وضعه المعهد الأمريكي للسينما في قائمته كأعظم قصة حب في تاريخ السينما الأمريكية، كذلك صار واحدًا من أبرز أفلام الحرب والجاسوسية في السينما العالمية، ما يجعل سؤال الناقد السينمائي الإسباني خابيير كورتيخو بديهيًا: كيف يعقل أن فيلما كتب بطريقة عفوية إرتجالية، قد تحول إلى كتاب السينما المقدس؟
لكن هذا الاستغراب قد يزول مع معرفة الطريقة التي صُنع بها هذا الفيلم وما أحاط به من صدف، فالعفوية التي صاحبت الفيلم لربما كانت تميمة حظه، فحين أنتج وعرض أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الأضواء تسلطت على مدينة الدار البيضاء وتصدر اسمها عناوين كل الصحف بعد أن وصلت إليها القوات الأمريكية في مسارها بالشمال الأفريقي، واختارها زعماء الحرب حينذاك: الرئيس الأمريكي روزفلت والسوفييتي ستالين ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، لعقد مؤتمر لبحث استراتيجية الحرب، ما حقق رواجًا أكبر للفيلم.
مع حلول الحرب العالمية الثانية، توجهت أعين العديدين في أوروبا بالأمل أو اليأس نحو حرية أمريكا. أصبحت لشبونة نقطة إنتقال كبرى، ولكن ليس بمقدور الجميع التوجه إليها مباشرة. هكذا تحركت قوافل اللاجئين من باريس إلى مارسيليا، وعبر البحر المتوسط إلى وهران، ثم بالقطار أو السيارة أو مشيًا، عبر شمال أفريقيا إلى الدار البيضاء، هناك قد يحصل الأثرياء بالسلطة أو المال أو الحظ على تأشيرة للخروج إلى لشبونة، ومنها إلى العالم الجديد، الباقون إنتظروا بالدار البيضاء، وانتظروا ثم إنتظروا...
هكذا يمهد الفيلم لقصته بتعليق صوتي مترجم بصور معبرة عن كلماته، تظهر فيها القوافل البشرية في رحلة سفرها على خلفية من الخرائط التي تحدد مكانها، وصور بانورامية للدار البيضاء، رجل فوق مئذنة، هي الإشارة التي أرادها الفيلم للكشف عن هوية المكان، رجل المئذنة يتطلع إلى المدى البعيد الذي يحمل القادم الغريب، ثم يُفتح الكادر على سوق صاخبة في المدينة المغربية الخاضعة للإدارة الفرنسية والتي لجأ لها الهاربون، تعلن الشرطة المحلية عن مقتل اثنين من سعاة البريد الألمان، وبحوزتهم أوراق ووثائق مهمة، وعلى إثر ذلك تبدأ حملة إعتقالات كبرى في شوارع المدينة، رجل يشتبه به فيقتل أثناء فراره من الشرطة ثم يكتشفون في يده صورة ممزقة لفرنسا الحرة كما كُتب عليها، الجميع يتطلع إلى طائرة في الجو وتقول امرأة ربما نكون فيها غدًا، حالها كحال الجميع الذين يحلمون بلحظة المغادرة، رجل يتحرك بين طاولات المقاهي وهو يشير إلى فوضى الاعتقالات وازدحام اللاجئين من أجل الحصول على تأشيرات وتصاريح المغادرة إلى لشبونة، ويقول :"مع هؤلاء نزحت حثالة أوروبا إلى الدار البيضاء، المكان مليء بالأشرار.. الأشرار في كل مكان"، ثم يختفي في الزحام قبل أن يكتشف رجل آخر ضياع محفظته.
صورة من صور المدينة التي لم تألف هذا التدفق من اللاجئين والوافدين إليها، الدار البيضاء الخاضعة للإدارة الفرنسية، وفرنسا نفسها في قبضة الألمان، دخلها الجميع بما فيهم القوات الفرنسية والألمانية وأنصارهما، ومن بينهم الرائد الألماني ستراسر وقد وصل بطائرته التي تحمل علامة النازي، بدا مختالًا يمشي حذو صلفه الذي ملأ الكادر، لكن الغرور الأمريكي ظهر بشكل أكبر من خلال اللافتة "ريك.. المقهى الأمريكي" المكتوبة بحروف بارزة تعلن وجود المقهى الذي يلجأ إليه الجميع ويكاد يشكل أهم علامة بارزة في الدار البيضاء، أما ريك فهو صاحبه الأمريكي، 37 عاماً لا يستطيع العودة إلى بلاده لسبب مجهول، نعرف بتتابع الأحداث أن ريك فيما مضى من مناهضي الفاشية في أثيوبيا وإسبانيا، أما اليوم فهو يبقى بإرادته في الدار البيضاء يدير مقهاه الذي تتم فيه كل الصفقات المالية والسياسية دون أن يورط نفسه، وهو يردد جملته الأثيرة والمتكررة: "لا أخاطر برقبتي لأحد".
ريك، رجل بخصاله القاسية كما يظهر، محصنًا بدخان سجائره ومزاجه الحاد الذي ينسحب على ملامحه، ثمة شيء يتخفى وراء شراسته المعلنة، شيء ساكن بداخله لا يريد أن يوقظه، لذا يحافظ على نظرته الثاقبة، لا يثق في أحد ويلعب الشطرنج وحيدًا، ربما وحده سام عازف البيانو المستثنى من كل محيطيه، وإن لم يثنيه عن حزن يفيض في قلبه، هذا الشيء يكشف عن نفسه في لمح البصر بمجرد لقائه بـ"إلسا" الذي يكشف معاناته وحبه وهو يردد:" من بين كل الملاهي في كل مدن العالم… دخلت ملهاي".
بين نعومة ورقة إلسا وخشونة ريك، كان اللقاء الذي طلبت فيه الحبيبة من صديقهما المشترك أن يعزف لها“as the time goes by ، المقطوعة الموسيقية القديمة والأغنية التي تُذكرها بالأيام الخوالي: "إعزفها يا سام"، تقولها وتطلب منه أن يغنيها أيضًا، باحثة عن لحظة باريسية تفتقدها الآن في حضور هذا الرجل الغليظ الذي يقاطع عزف سام، ويرفض استدعاء باريس لتذكره بغيابها الذي لم يجد له تفسيرًا، وهو ينظر بغضب لمن جاءته بعد هذه السنوات بصحبة زوجها المناضل التشيكي، لتقتحم أفقه الفوضوي، يرفض أن يستمع إلى المقطوعة الموسيقية، ثم يطلبها حين ينفرد بنفسه وسام والبيانو وموسيقى تعبيء المكان بالذكرى التي تداهمه في مشاهد فلاش باك.
تتصاعد الأحداث ليسود الحس الإنساني، ليضحي ريك بحيه هذه المرة ويترك حبيبته لزوجها المناضل، لأنها جزء من استمراره في عمله النضالي وأن هذا المثلث الذي ربط ثلاثتهما لا يساوي شيئًا في هذا العالم المجنون، وبهذا يصبح ريك في نظر الجمهور الأمريكي النبيل، وجوده ضرورًيا لإنقاذ الحلفاء الأوربيين من الفاشية المظلمة قبل أن تسود العالم، ويظل "كازابلانكا" من أكثر الأفلام شعبية على الإطلاق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة