"علي الناخبين أن يعاقبوا أعضاء الكونجرس".. عبارة لم يلتفت إليها كثيرون داخل وخارج الولايات المتحدة، أدلي بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال خطاب له الأسبوع الماضى عن أزمة عنف السلاح داخل البلاد، إلا أنها عكست كثيراً مما يدور خلف الستار في بلاد استطاعت علي مدار عقود مضت أن ترسم لنفسها صورة "الرمز" في الديمقراطية وحقوق الإنسان وغير ذلك.
إلا أن السنوات القليلة الماضية، عكست بما لا يدع مجالاً للشك معاناتها من كثير من آفات العالم الثالث، ومن بينها المال السياسي، وإدارة شبكات المصالح، والدفع بمرشحين علي حساب غيرهم لتحقيق أجندات خاصة، بداية من المجالس المحلية داخل الولايات، وصولاً إلى الكونجرس الأمريكي بغرفتيه "الشيوخ" و"النواب".
بايدن، الذي تحدث بعد سلسلة من حوادث دامية حصدت أرواح المئات وأصابت آلاف الأمريكيين، فشل منذ دخوله البيت الأبيض في الدفع بتشريع يفرض قيود علي حيازة السلاح داخل الولايات المتحدة ، لحل أزمة تاريخية في البلد الذي ينص التعديل الثاني لدستوره (المادة الثانية) علي أن حمل السلاح وشرائه حق مكفول بقوة القانون، لتثبت التجارب التي توالت في عمر الدولة الأمريكية أن اعتبارات الأمس باتت باهظة التكاليف بحسابات اليوم، وأن الحصيلة المؤلمة لهذا الحق القانوني، تفوق احتمال الأسر الأمريكية.
صفقات البزنس والسياسة تحصد أرواح الأمريكيين
وتضم الولايات المتحدة روابط واتحادات لمصنعي الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ، أشهرها على الإطلاق الاتحاد القومى للأسلحة أو رابطة البندقية الوطنية، والذى تم تأسيسه عام 1871 من قبل اثنين من محاربى الحرب الأهلية كجماعة هدفها الترويج والتشجيع على إطلاق النار من البندقية على أساس علمى.
فى عام 1975، كونت المنظمة جماعة الضغط الخاص بها المعروف باسم معهد التحرك التشريعى، الذى يهدف إلى التأثير على سياسة الحكومة، وفى عام 1977، كونت لجنة العمل السياسى الخاص بها من أجل نقل التمويلات للمشرعين.
وأنفقت المنظمة المعروفة اختصار باسم NRA، نحو 250 مليون دولار من أجل الترويج لأجندتها، وهو مبلغ أكثر بكثير من كل ما تنفقه الجماعات المناصرة لتشديد قيود الأسلحة. وتمتلك المنظمة أعضاء أكثر من تلك الجماعات وتستخدم تمويلاتها فى تنظيم معارض الأسلحة والبرامج التعليمية . ومن الناحية الرسمية، تنفق 3 ملون دولار سنويا للتأثير على سياسة الأسلحة. إلا أن هذا يمثل فقط المساهمات المسجلة للمشرعين، ويتم إنفاق مبالغ كبيرة أخرى فى أماكن أخرى عبر لجان العمل السياسى والمساهمات المستقلة، وهى تمويلات يصعب تتبعها.
وتقول "بى بى سى" إن المنظمة تصنف أعضاء الكونجرس من A إلى F وفقا لمدى تقبلهم لحقوق الأسلحة. ويمكن أن يكون لهذه المعدلات تأثير خطير على أرقام الاستطلاع وحتى تكلفة المقعد التشريعى للمرشحين المؤيدين لقيود الأسلحة.
فى إطار السباق الانتخابى لعام 2020، نشر موقع "برادى" لمناهضة عنف الأسلحة فى أمريكا إحصائية بأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى الذين استفادوا من غنفاق رابطة البندقية، كان أبرزها ميت رومنى الذى حصل على أكثر من 13.6 مليون دولار فى الوقت لذى سجلت ولايته 400 وفاة بالسلاح فى عام واحد. وريتشارد بور، الذى حصل على تبرعات إجمالها سبعة ملايين دولار وسجلت ولايته نورث كارولينا 1470 وفاة بالسلاح، وروى بلونت حصل على 4.5 مليون دولارن وسجلت ولايته 1288 وفاة.
وهناك أيضا السيناتور ماركو روبيو، الذى حصل على 3.3 مليون دولار، وتوم كوتون الذى حصل على نحو مليونى دولار، ومارشا بلابورن حصل على 1.3 مليون دولار.
الشرطة والمحليات.. صفقات تأمين الامتيازات
ومثلما عرف المال السياسي طريقه إلى القمة وساهم ولا يزال في ترجيح كفة مرشحين علي حساب غيرهم داخل الكونجرس الأمريكي ، فإن الأمثلة علي صعيد الولايات ومجالسها المحلية كثيرة ، وهو ما كشفته الأزمة التي شهدتها البلاد في أعقاب مقتل الأمريكي ذوو الأصول الأفريقية جورج فلويد ، وما صحبها من احتجاجات ومطالب بهيكلة إدارات الشرطة داخل الولايات المختلفة ، وهي الدعاوي التي لم تعرف طريقها إلى حيز التنفيذ رغم التغيير الذي شهده البيت الأبيض، ورحيل الرئيس السابق دونالد ترامب ، ومرور ما يقرب من عامين علي ولاية الرئيس الحالي جو بايدن.
وكشف تقرير سابق لصحيفة الجارديان فى يونيو 2020 وقوف جماعات ضغط ونقابات شرطية فى ولايات عدة وراء عرقلة جهود الإصلاح، موضحا أن النقابات الخاصة بأفراد الشرطة كثيرا ما تدخلت فى دعم مرشحين محليين والتأثير المادي على عمليات انتخابية عدة لتحقيق أغراضها.
وتوصل تقرير جارديان للسجلات المالية المحلية والفيدرالية والذى كشف أن نقابات وضباط الشرطة الناشطين في أكبر ثلاث مدن في الولايات المتحدة الأمريكية تنفق عشرات الملايين من الدولارات سنويًا للتأثير على سياسة إنفاذ القانون وإحباط محاولات الإصلاح.
وحددت الجارديان حوالي 87 مليون دولار من الإنفاق المحلي والدولي على مدى العقدين الماضيين من قبل النقابات، ويشمل ذلك 64.8 مليون دولار على الأقل في لوس أنجلوس و 19.2 مليون دولار في مدينة نيويورك و 3.5 مليون دولار في شيكاغو.
وتظهر السجلات أن معظم الإنفاق حدث خلال السنوات العشر الماضية حيث زادت المساهمات والضغط بشكل كبير في معظم الولايات القضائية.
وعلى المستوى الفيدرالي، أنفق ضباط الشرطة ونقاباتهم ما لا يقل عن 47.3 مليون دولار على مساهمات الحملة وممارسة الضغط في الدورات الانتخابية الأخيرة وفقًا لبيانات Maplight وسجلات مجلس الشيوخ ومجلس النواب
لجان العمل السياسى
وبخلاف صفقات ما وراء الستار ، فإن المال السياسي في الولايات المتحدة لديه مسارات مشروعة، وهو ما يحدث من خلال المانحين داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري لمرشحي الانتخابات الرئاسية. وفى عام 2010 قضت المحكمة العليا الأمريكية بأن الشركات والنقابات العمالية تتمتع بنفس الحق بالحديث السياسى مثل الأفراد، مما أدى إلى تحفيف القيود المتعلقة بالمال السياسى فى الولايات المتحدة.
فأصبح بإمكان لجان العمل السياسي المعروفة باسم "سوبر باكس" أن يتم تمويلها جزئيا من قبل الشركات والمليارديرات والاتحادات القوية. ويمكنها أن تصب الملايين من الدولارات فى الحملات السياسية .
وفى كتاب صادر عام 2020 عن جامعة روشستر، حذر من النفوذ السىئ لجماعات العمل السياسى، وقال إن تدفق مبالغ كبيرة من المال فى السياسى يضر بالثقة فى الحكومة ويقمع إقبال الناخبين ويضع مصالح الشركات أولا ويثير شبهة الفساد حول النتائج.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة