مع نهاية الحرب الباردة، وانطلاق مرحلة الهيمنة الأمريكية المطلقة على النظام العالمي، كانت "عودة روسيا"، بمثابة ذروة "الكابوس" الأوروبي، وهو الأمر الذي نجحت واشنطن في استخدامه كـ"فزاعة"، لضمان استمرار حالة "الولاء" الأوروبي، للولايات المتحدة، في مرحلة ما بعد الصراع، مع الاتحاد السوفيتي، وكبح جماح أي طموح سواء فردى، للقوى الأوروبية البارزة، أو جماعي، في إطار الاتحاد الأوروبي، للمنافسة على مقاعد القيادة الدولية، أو حتى مجرد تبنى مواقف مناوئة للرؤى التي تتبناها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهو ما يترجم الانتقال من عصر القيادة البريطانية للقارة، رغم ما تملكه لندن من إمكانات اقتصادية وتاريخية وجغرافية، ناهيك عن دورها الكبير في الحرب الباردة، إلى ألمانيا، والتي باتت تمثل عنوان لمرحلة جديدة، في العلاقة بين أمريكا وحلفائها في دول المعسكر الغربي، خاصة بعد توحيد الألمانيتين، وسقوط حائط برلين.
ولعل المخاوف الأوروبية من احتمالات "عودة روسيا"، شكلت فرصة مهمة، للولايات المتحدة، لإدارة العلاقة مع أوروبا الغربية، في مرحلة "ما بعد الحرب الباردة"، حيث بقى هذا الهاجس ذريعة للإبقاء على "الناتو" لحماية أمن القارة، بل والتوجه نحو توسعة الحلف، للتضييق على موسكو، في مناطقها الاستراتيجية، ليتحول "كابوس العودة" تدريجيا إلى حقيقة، مع مرور السنوات، وحالة الاستمرار فيما اعتبرته الحكومة الروسية مرارا وتكرارا تهديدا صريحا لأمنها، ليجد العالم نفسه بعد 3 عقود كاملة، على موعد مع صراع دولي جديد، ربما لن يحظى بنفس الطبيعة الباردة، التي طغت على الصراع بين الشرق والغرب قبل الهيمنة الأمريكية المطلقة.
ولكن بعيدا عن إرهاصات الوضع العالمي الراهن، وما آل إليه من تداعيات، يبقى الحديث الأهم عن الاختيارات المتاحة أمام أوروبا لمواجهة الواقع الحالي، في ظل تخلي أمريكي صريح، خلال السنوات الماضية، بينما تبقى الأزمات محيطة بدول القارة العجوز من كافة الاتجاهات، وهو ما يبدو في الأزمة الأوكرانية الحالية، وعودة موسكو القوية، كقوى يمكنها تحقيق الهيمنة والسيطرة على محيطها الجغرافي، ناهيك عن حالة من الانقسام داخل القارة، حول العديد من الملفات والقضايا، منها مسألة الغاز الروسي، ومستقبل الناتو، وغيرها، مما يساهم في تفاقم الوضع الذي تواجهه أوروبا في المرحلة الراهنة، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة إلى تحالف جديد مع قوى يمكنها دعم القارة، لتعويض الغياب الأمريكي، وفي الوقت نفسه حمايتها من "البطش" الروسي المحتمل، وهو ما يمكن أن ينطبق إلى حد كبير على الصين.
التوجه الأوروبي نحو الصين، في جوهره، يحقق العديد من المصالح لدول القارة العجوز، ربما أبرزها أنه يمثل ورقة ضغط كبيرة على الولايات المتحدة، والتي ترى بكين الخصم الأكبر بالنسبة لها في السنوات الماضية، بينما يشكل في الوقت نفسه وسيلة هامة لاحتواء الخطر المحتمل الذي باتت تشكله روسيا على القارة العجوز، إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة النفوذ الذي تحظى به بكين، وقدرتها على القيام بدور من شأنه الوصول إلى حلول للأزمة الراهنة، وبالتالي احتواء تداعياتها.
الصين من جانبها، احتفظت بموقف حيادي تجاه الأزمة الأوكرانية منذ اندلاعها، على عكس المتوقع، في ضوء العلاقة التحالف الاستراتيجي الذى يجمع بكين وموسكو، وهو ما يفتح الباب أمامها للفوز بثقة الأوروبيين، وبالتالي القيام بدور في الأزمة الراهنة على المدى القريب، عبر الوساطة بين روسيا ودول أوروبا الغربية، من جانب، بالإضافة إلى اختراق المنطقة الأبرز في نفوذ الولايات المتحدة، بل والفريق الأكبر الداعم لقيادتها الدولية طيلة السنوات الماضية على المدى المتوسط، من جانب أخر، وهو ما يمثل بعدا جديدا للصراع الدولي الجديد، والذي لم يقتصر بطبيعة الحال على روسيا والغرب، وإنما تبقى الصين لاعبا رئيسيا فيه، وهو ما أدركته واشنطن في السنوات الماضية، واتجهت لتطويقها، عبر حروب تجارية، واقتصادية، كانت تهدف في الأساس إلى تقويض دورها، وإبعادها عن المنافسة على قمة النظام الدولي.
وهنا يمكننا القول بأن الرهان بين الصين وأوروبا الغربية، يبدو متبادلا، فكلا الطرفين يبقى في حاجة إلى الأخر، في ظل احتياج أوروبا لداعم قوى يمكنه تعويض الغياب الأمريكي، بالإضافة إلى القيام بدور في احتواء الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن إمكانية الانغماس في شراكات تجارية واقتصادية، من شأنها دفع الاقتصاد في أوروبا، في مرحلة تبدو فيها القارة العجوز على موعد مع أزمات كبيرة إثر تداعيات الحرب القائمة وكذلك استمرار الأثار المترتبة على أزمة كورونا، بينما تبقى بكين، هي الأخرى، في حاجة إلى اختراق مناطق واشنطن، ليصبح هذا التوجه، إن تحقق، نقطة تحول مهمة في موازين القوى الدولية في المرحلة المقبلة، خاصة مع حالة انعدام الثقة في دول "المعسكر الغربي" تجاه القيادة الأمريكية، وبالتالي حاجتهم الملحة للبحث عن شراكة جديدة، بعيدة عن الفلك الأمريكي التقليدي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة