"الفلسطينيات نساء لا يعرفن المستحيل"... حقيقة تتكشف لمن يعيش فى المجتمع الفلسطينى يومًا بعد يوم... فرغم كل الصعاب، من قيود الاحتلال وظروف الاقتصاد الصعبة، تجد النساء فى هذا المُجتمع وكأنهن يسعين وراء هذه الصعاب، فيما يبدو عشقا للتحدى، من أجل بلوغ أهدافهن فى الحياة وإضافة قصة "نجاح" جديدة لسجل ناصع البياض لكفاح الفلسطينيات فى شتى المجالات.
ومصدر الإلهام الأول، ولكنه لم يكن الوحيد، لكتابة هذه القصة الخبرية، هى مُعالجة نفسية فلسطينية نجحت فى طرق أبواب مجال يعجز فيه الكثير من الرجال، ألا وهو مجال النجارة. تقول المُعالجة النفسية حنان وليد (35 عامًا)، التى درست علم النفس فى جامعة "بيرزيت" والحاصلة على عدد من الشهادات فى هذا التخصص، إنها حصلت فى عام 2017 على دبلوم "نجارة" لمزاولة المهنة من الاتحاد "اللوثري" فى فلسطين، وخلال فترة الدبلوم اكتشفت عشقها لهذا المجال الذى وجدت نفسها به.
وقالت حنان وليد (35 عامًا)، وهى أم لابنتين، إنها بعد أن أنهت دبلوم النجارة، قررت ألا تتوقف عند هذه المرحلة، وأن تبدأ مشروعًا ولكنها واجهت الكثير من المصاعب فى هذا المجال، إلا أن ذلك لم يثنها هى وصديقتها "عزيزة" عن بلوغ هدفهما ببدء مشروع "مريمة" بعد تذليل الصعاب الاقتصادية والمجتمعية.
وتحدثت حنان عن الصعاب التى واجهتها وقالت إنها بدأت من أول يوم فى التدريب، إذ كان ينظر للمتدربات بنظرات استغراب ويتساءلون لماذا تذهب النساء إلى المنطقة الصناعية لتتعلم النجارة، وهو مجال لطالما ارتبط نمطيًا وذهنيًا بالرجال فى المجتمع العربى والشرقي.
وعن اختيار اسم "مريمة" للمشروع، قالت حنان أنه مُستوحى من رواية "ثلاثية غرناطة" وهو اسم امرأة عربية تصنع كل شيء بيديها ومن هنا جاء تسمية المشروع الذى بدأ عام 2018 أى بعد حصول حنان على الدبلوم بعام واحد فقط.
وقالت أنه ضمن الصعوبات التى واجهتها هى وصديقتها أن لا أحد من التجار كان يتعاطى معهم بجدية، ولم يكن يعطيهما عروض سعر جادة لدرجة أنه لما عرض عليهما أحد المزودين عرضًا جادًا قررا الشراء منه فى نفس اليوم.
وعن الصعوبات الجسدية فى مهنة "النجارة" التى هى "حكر" على الرجال فى المجتمع الشرقى، قالت حنان إن النجارة مهنة "صعبة" وتتطلب الكثير من التركيز أيضًا كون أى فقدان للتركيز يعرضها للخطر.. مشيرة إلى أنها تتطلب كذلك جهدًا جسديًا من أجل حمل الألواح وهو ما يستطيع أن يقوم به رجل واحد لكنها تفعل ذلك بمساعدة صديقتها عزيزة. وقالت حنان وهى تحتبس دموعها إن والد صديقتها عزيزة – التى درست إدارة الأعمال فى جامعة القدس المفتوحة - هو من ضمنهما فى تمويل المشروع وآمن بهما ولكنه توفى قبل أن يرى نجاح المشروع.
الذكاء فى الدمج بين مجالين، هذا هو ما قامت به حنان، فقد استغلت دراستها لعلم النفس، وكونها مُعالجة وإخصائية نفسية للأطفال والشباب، وسخرت هذا العلم فى إنتاج العديد من المنتجات الخشبية الخاصة بتطور الطفل ومساعدته على تطوير قدراته الحركية والاستقلالية. ولم يمنع مشروع "مريمة" حنان من الاستمرار فى عملها العيادى والعلاج النفسى الذى درسته وتحبه أيضًا.
وقال حنان إنها قررت وصديقتها عزيزة، بعد دراسة السوق، التخصص أكثر فى مجال الأطفال، وبدأ مشروعهما الطموح الكائن على أطراف رام الله، فى إنتاج تصميمات موجودة فى الخارج ولكنها غير متوافرة فى السوق الفلسطينى وهى منتجات، على سبيل المثال، تساعد الطفل على التسلق لتطوير عضلات اليدين والقدمين.
وتنتج "مريمة" كذلك غرف نوم الأطفال والشباب، بتصميمات مُبتكرة للغاية، ومستخدمة أخشابًا أكثر جودة ومتانة، لتستطيع مُنافسة المنتجات الأخرى فى الأسواق الفلسطينية.
وقالت حنان إنها تأمل وتطمح أن يتطور مشروع "مريمة" ليصبح شركة كبيرة لإنتاج أثاث الأطفال لا تكون موجودة فقط فى السوق الفلسطينى ولكنها تحلم أن تتمكن من نقل مُنتجاتها إلى خارج فلسطين فى يوم من الأيام.
"صحفية" تصنع حلويات فلسطينية:
وقادت قصة حنان وصديقتها عزيزة، مراسل وكالة الشرق الأوسط فى الأراضى الفلسطينية، للتعرف على نموذج آخر لكفاح الفلسطينيات وذكائهن وطموحهن الذى لا ينتهى فى الحياة، نموذج لا يقل نجاحًا أبدًا، ويعكس كيف يمكن للإنسان أن يصنع النجاح إذا ما امتلك الإرادة والعزم والمثابرة.
وصاحبة القصة التالية هى "هيا الشيخ ياسين"، (32 عامًا) وهى بالأصل صحفية من مُحافظة نابلس، تركت وظيفتها عندما استشعرت أن ظروفها لم تعد ملائمة لها، واختارت أن تكون صاحبة مشروع لعمل الحلويات التقليدية الفلسطينية، والتى لاقت إقبالا كبيرًا من الفلسطينيين كونها حلويات صحية مصنوعة بـ 60% سكر أقل، وهو ما جعلها مُفضلة للجميع وخاصة مرضى السُكرى كما أنها خالية تمامًا من المواد الحافظة والملونة.
ومشروع "كويك" هو نتاج حب كبير وتفاهم ومشاركة بين زوجين، وتقول هيا عن ذلك "دعم الأهل مهم.. ولكن دعم الزوج هو الأهم فهو الداعم المباشر.. ولولا وقوف زوجى، وهو الداعم الرئيسى لى، ما كان ليكتب لهذا المشروع هذا النجاح الكبير.
وأحمد، وهو زوج هيا الشيخ ياسين، مُصمم جرافيك كان يملك مشروعًا فى الدعاية والإعلام، لكنه قام ببيع خامات ومواد هذا المشروع، وحصلت هى على مُكافأة نهاية الخدمة من عملها، وأسسا مشروع "كويك" بالمشاركة بينهما وهو "ابن أفكارها".
وعن تحولها من الصحافة إلى العمل الحر، قالت هيا الشيخ ياسين إنها كانت تعمل مُذيعة لبرنامج "توك شو" مُتخصص فى الموضوعات الاجتماعية بالأساس وإن الأحداث السياسية تفرض نفسها على الحياة الفلسطينية وقد وجدت هى صعوبة أن تغير نمط البرنامج مُباشرة لتغطية الأحداث السياسية فى حينها.
وأضافت أنها وجدت أنه من غير المناسب أن تكون هناك اقتحامات، على سبيل المثال، ومشاكل فى المسجد الأقصى أو فى المناطق الفلسطينية وتقوم هى بتقديم برنامج تستقبل فيه اتصالات بخصوص موضوعات اجتماعية ويقدم أغانى ومزحًا وضحكًا قائلة إنها استشعرت أن هذا الأمر يُخالف مبادئها ويعرضها لضغط نفسى مستمر وفى نفس الوقت يُعرضها لانتقادات كصحفية وإنسانة قبل كل شيء.
وقالت هيا الشيخ ياسين إنها لم تتحول من الصحافة إلى العمل الحر "مباشرة"، ولكنها مرت بالعمل فى العلاقات العامة، ووجدت أن قضاء 8 ساعات يوميًا فى وظيفة هو أمر متعب، وسألت نفسها لماذا لا تستثمر هذا الجهد فى مشروع خاص. وتضيف هيا أنها عندما بدأت مشروعها الخاص وجدات أن لديها الاستعداد لتعمل 12 ساعة متواصلة دون شعور بكلل أو ملل.
واستدركت هيا، العضو الآن فى منتدى سيدات الأعمال الفلسطينيات، تقول إن مشروعها الخاص لم يمنعها من مزاولة العمل الصحفى، إذ تعمل أيضا كصحفية مُستقلة وتقوم بتغطية أخبار تختص بالأساس بشؤون المرأة والطفل والتعليم.
وينتج مشروع "كويك" الحلقوم والسمسمية، وهى حلويات تشتهر نابلس بها، وتقدمه بـ 12 نكهة مُختلفة ومميزة، وهو ما يجعلها علامتها التجارية مُميزة فى السوق الفلسطيني. والشهرة التى نالها منتجها فى السوق الفلسطينى نظرًا لجودته، أصبح يتم تصديره إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وقالت هيا الشيخ ياسين، العضو الآن فى مجلس سيدات الأعمال الفلسطينيات، إنها استفادت من خبرة العاملين فى مصانع الحلويات القديمة فى "نابلس" والتى أغلقت بفعل الاجتياح قبل 20 عامًا، إذ تواصلت معهم، واستفادت من خبرتهم وليس "مجانا"، لتتعلم "سر صنعة" الحلويات النابلسية الشهرية، كما أنها استعانت بخبيرة تغذية لتقدم مُنتجًا يليق بسمعة نابلس العريقة.
استكمال نضال الأب:
الحديث عن بطولات الفلسطينيات فى مُختلف المجالات لا تستوعبه مُجلدات، وإن كانت هناك قصة هى خير ختام لقصص متجددة تظهر نقاء معادن الفلسطينيات، هى قصة ليديا الريماوي: زوجة الأسير عبد الكريم الريماوى، المحبوس فى سجون الاحتلال الإسرائيلى منذ 22 عامًا والذى يبلغ عمره الآن (45 عامًا) أى أنه قضى نصف عمره تقريبًا بين جدران سجون الاحتلال.
وتم أسر عبد الكريم الريماوى – واسمه نسبة إلى بلدة "بيت ريما" فى قضاء رام الله – فى عام 2001، وحكم عليه بالسجن لمدة 25 عامًا وتنتظره زوجته المُناضلة "ليديا" منذ أسره على أمل أن يجمعهما اللقاء قريبًا فى منزل أسسته له بحب، وابنة حرمهما الاحتلال بقسوته من قضاء أجمل أيامهما معًا إذ ولدت "راند" ابنة عبد الكريم الريماوى الأولى قبل سجنه بـ 8 أشهر فقط.
عكفت ليديا الريماوى على تربية ابنتها لتقدمها للمجتمع نموذجًا صالحًا وطيبًا وهى الآن واحدة من أكفأ وأنجح الطالبات فى كلية الإعلام بجامعة بيرزيت.
وقالت راند الريماوى، التى لا تقل فى نضالها عن أبيها وأمها، إنها دخلت كلية الإعلام إيمانًا منها برسالته، ولتكمل الحلم الذى لم يُكمله أبوها، فقد كان عبد الكريم الريماوى يدرس الإعلام وفى السنة الثالثة عندما تم أسره من قبل الاحتلال وقبل أن يعرف طريقه إلى غياهب السجن.
وراند، ذات الـ 22 ربيعًا، فى السنة الأخيرة من كلية الإعلام، إذ لم يتبق لها سوى شهر واحد فقط. وتنتظر راند - الصحفية الواعدة كما يصفها أساتذتها فى كلية الإعلام - بفارغ الصبر لتبدأ مزاولة العمل الصحفى لتسليط الضوء على جرائم الاحتلال الإسرائيلى فى حق الشعب الفلسطيني.
والفلسطينيات – كما ذكرت - لا يعرفن المستحيل، فالسجن لم يمنع ليديا الريماوى من إنجاب طفل لزوجها، فهى لم تبن له البيت فقط، بل وأنجبت له ولدًا، رغم قيود الاحتلال، وكان هذا عن طريق ما عُرف فيما بعد بـ "النطف المُهربة"، وكان ابن فكرتها هو الطفل "مجد" الذى ولد عام 2013.
وقالت ليديا الريماوى أنه كان من حق زوجها وشريك عمرها الأسير عبد الكريم الريماوى أن يكون له طفل، وعندما جاء مجد إلى الحياة شعرت أنها كسرت قيود الاحتلال والسجن والقوانين الإسرائيلية الجائرة ضد الشعب الفلسطيني.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة