قبل سنوات بعيدة، كنت أسافر إلى مرسى مطروح ومنها إلى سيدى برانى، حيث أمضى الخدمة العسكرية على الحدود الغربية، وكنت أمر على طرق صعبة بلا خدمات تقريبا، ضيقة وفردية، والقطار بطىء على سكة مفردة، كنا نمر على صحارى القطاع الغربى، ونلمح بقعا خضراء صغيرة، تشير إلى أرض صالحة للزراعة، لكن بقيت هذه المنطقة بلا تنمية ولا تطوير، ولما أقيم الساحل الشمالى أصبح مجرد مصيف لعدة أسابيع أو شهور ويبقى معطلا طوال العام.
كانت الانتقادات، أننا نهدر ثروة زراعية وصناعية، ونركز فقط فى الساحل الشاطئ، كنا نقرأ لمتخصصين عن أهمية القطاع الغربى وميزاته الزراعية وإمكانياته، وأن الأفضل أن تقام مدن وليس مجرد شواطئ ومنتجعات أو تكون الأخيرة جزءا وليست أساسا، وظللنا فى هذا الواقع من دون خطة تحيى القطاع الغربى، وتضعه على خرائط التنمية، وكان ذلك مطلبا لخبراء تخطيط، لكنه بقى مجرد فكرة تحتاج إلى إرادة، نفس الأمر كان مع طرح فكرة ممرات التنمية، أن تكون هناك طرق وقطارات تسهل الانتقال، فتولد حولها مجتمعات زراعية وصناعية.
كل هذا بقى حتى عشر سنوات، عندما بدأت الدولة فى دراسة الأفكار وتحولها إلى خطط ثم تبدأ تنفيذها، وكانت الأزمة، أنه من الصعب إقامة مدن أو مجتمعات من دون توفير الطرق ووسائل النقل، وهو ما بدأ فى شبكة الطرق القومية، التى تمثل ضرورة لبدء أى تنمية، مع التفكير فى إقامة مدن مليونية يمكنها استيعاب الزحام والتكدس فى الوادى والدلتا.
كل هذا نراه ونحن نتنقل شمالا وجنوبا، وننتظر قطارات تربط الغرب بالشرق، والشمال بالجنوب، قطارات حديثة سريعة تضاعف من نقل الأفراد والبضائع، وتعالج مشكلات الخطوط القديمة، وهى طرق ضرورية لبدء أى تنمية، ومطالب مسجلة فى أوراق ودراسات وأبحاث ومقالات، وبالتالى فهى ليست ابتداعا ولا هى زينة للتفاخر.
كنت أفكر وأرى هذا، وأنا أنتقل إلى طريق مصر الإسكندرية، ومنه إلى طريق الضيعة، وعلى مدى 50 كيلومترا، كنا نشاهد بقعا خضراء متناثرة فى أرض مستصلحة حديثا، بدأ العمل فيها مع شبكة الطرق، لكن بعد نحو 50 كيلومترا وجدنا مساحات واسعة من الخضرة فى مشروع «مستقبل مصر»، وهو جزء من الدلتا الجديدة، المخطط له أن يكتمل ليكون مليونا و50 فدانا فى يوليو 2024، خلال 5 أعوام، من 2017 بلغ ما تم استصلاحه وزراعته نحو 350 ألف فدان، مزروعة بالقمح والبنجر والبطاطس، بدأت 2017 وبعد عام كانت هناك 50 ألف فدان، ثم 110 آلاف، ثم 200 ألف عام 2020، و10 آلاف فدان شرق طريق القاهرة - الإسكندرية، كما قال المقدم بهاء الغنام المدير التنفيذى للمشروع.
المشروع كله يتم بتكنولوجيا عالية فى الرى والحصاد، هذه المساحات استهلكت 1250 ميجا من الكهرباء بتكلفة ضخمة، وكان من الصعب أن يقوم به قطاع خاص منفردا، أو يستحيل أن يكون هناك استثمار فى هذا المشروع، بالرغم من أهميته، فى ظل ارتفاع قيمة الغذاء والإنتاج الزراعى، وهذه المساحة، حال زراعتها بالقمح، تنتج مليون طن سنويا، لكن الدورة الزراعية تحتم تبادل المحاصيل وتنوعها، لراحة التربة ولأسباب يحددها العلم والخبرة الزراعية.
وحسب ما أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى افتتاح المشروع، فقد كان هذا نتاج تخطيط وخبرات، والواقع أننا بالفعل نتمنى أن يشاهد كل المجتمع هذه الخطوات، لأنها تقدم إجابات عن أسئلة مطروحة، بعضها بسبب عدم المعرفة، والهدف أن يكون الجميع على دراية، خاصة ممن يطرحون أسئلة عن أولويات التنمية، فمثل هذا المشروع، ومعه توشكى وسيناء، تشير إلى تخطيط وإرادة وعمل جاد يقترب من النحت فى الصخر، وهو جهد لشباب وعمال مصريين، يواصلون الليل بالنهار، ويحق لهم أن يشعروا بأن جهدهم بالفعل يساهم فى توفير الغذاء وضمان الاكتفاء الذاتى من منتجات استراتيجية، وهى مشروعات تتم بأياد مصرية، وأدوات وأجهزة محلية، وحتى الترعة التى سوف تنضم لرى باقى المليون فدان، تنقل ماء معالجا عبر مشروعات صناعية وأنابيب ومساحات تمر من بحيرات وجبال، فكل نقطة مياه فى مكانها.
ثم إن هذه الأراضى أصول تقترب مساحتها من ربع مساحات الأراضى القديمة، التى تكونت على مدى عصور، وتمثل تنفيذا لأفكار وخطط ظلت مجرد أفكار تحتاج إلى إرادة وقدرة، وكل إنفاق فيها هو ثروة، جاهزة لمزيد من الاستثمار، بل إن القطاع الخاص الجاد يمكن أن يدخل فى هذه المشروعات، التى تم تأسيس المراحل الأصعب فيها، ونتمنى أن يراها كل من يسأل عن المستقبل، ليفخر بشباب ينحت فى الصخر ويحرث الصحراء، ليقدم كل هذه المحاصيل التى تسد فجوة وتعوض نقصا، وتجيب عمن يسأل حول أولويات التنمية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة