"الصمت فى حرم الجمال جمال".. معزوفة تراثية تنثر ألحانا شجية، فى ورشة عريقة بمدينة المطرية بمحافظة الدقهلية، يحكى أنينها سنوات طويلة من الكفاح والعمل، يجذبك فيها فنانا موهوبا منسجما فى صناعة سفن ومراكب غاية فى الروعة والجمال، يطوع بأنامله الساحرة قطع الخشب، مجسدا بأفكاره وتصميماته البراقة وحسه الفنى مراكب وسفن تسر الناظرين، تحكى عن ماض أصيل لم تنته جذوره وحاضر يحيى بالإرادة والعزيمة والأمل.
عشق من نوع خاص لم ينته فصول روايته، فى ورشة ظلت لأكثر من أربعين عاما تتلألأ بالسفن ومراكب الصيد، نجح الشاب العشرينى محمد شلبى خريج كلية التجارة، أن يبدع فيها ويطورها ليحافظ على إرث أجداده، إذ امتهن صناعة المراكب الخشبية منذ طفولته اقتداء بوالده وأجداده، وعشقا لحرفة يدوية عاش معها طفولته، ونجح بموهبته ومهارته وإتقانه لصنعته أن يحافظ على ورشة والده، ويسير بخطى ثابتة نحو الارتقاء بموهبته وتحقيق حلمه فى أن يصبح واحدا من أهم صناع المراكب الخشبية فى الدقهلية، ويصل بإبداعه وإبداع والده لدول العالم بجانب نجاحه وتفوقه الدراسي.
"والدى بالنسبالى كل حاجة، هو قدوتى وسبب نجاحى فى مهنة صناعة المراكب، كنت بحاول دايما أتعلم منه وأقلده، هو اللى حببنى فى الصنعة من طفولتى وشجعنى وعلمنى أصولها وأسرارها لحد ما احترفتها ونجحنا فيها سوا".. هكذا بدأ محمد شلبى صاحب الـ27 عاما حديثه لـ"اليوم السابع"، فأشار إلى أنه تعلم مهنة صناعة المراكب الخشبية بالوراثة، حيث ولد وجد والده وأجداده وجميع أهالى المطرية يعملون فى الصيد والنجارة وصناعة المراكب الخشبية، فعاش طفولته فى ورشة جده ووالده بين أعمال النجارة وصناعة المراكب الشراعية الخشبية، وبدأ فى تعلم صناعتها بجانب دراسته منذ أن كان فى الثامنة من عمره، حيث كان يذهب للعمل فى ورشة والده بعد عودته من المدرسة وأثناء فترة الإجازة، حتى عشق المهنة وتعلم أصولها من والده رائد صناعة المراكب فى مدينة المطرية، وأجادها واحترفها، وواصل عمله منها بجانب دراسته الجامعية، واستطاع بعزيمته وإصراره أن يحصل على بكالوريوس التجارة، وينجح بمهارته أن يصنع اسما لامعا له فى مجال صناعة المراكب الخشبية.
رحلة طويلة من العمل الشاق، يقضيها "محمد" ووالده والعمال فى الورشة حتى تتحول الأخشاب لسفن ومراكب مختلفة الأشكال والأحجام، فقال "محمد"، إنه ووالده نجحا فى تحديث وتطوير مجال صناعة المراكب الخشبية، صانعين لأنفسهم علامة مميزة فى مدينة المطرية، مؤكدا أن سر تفوقهم ونجاحهم هو اجتهادهم المتواصل فى العمل وسعيهم نحو الارتقاء بمهنة عريقة ظل اسمها لسنوات طويلة مرتبطا بمدينة المطرية، فضلا عن كفاح وإصرار العمال الذين يعملون كخلية نحل يوميا منذ ساعات الصباح الباكر فى تقطيع ألواح الخشب و"سنفرته" وبناء هياكل المراكب، وطلاءها وتخطيطها بأجمل الرسومات والعبارات لتشييد أكبر عدد ممكن من السفن والمراكب الخشبية، حيث أن ريادتهم فى المهنة ونجاحهم كان سببه أنهم يبدأون عملهم دوما من حيث انتهى الآخرون.
واستطرد أن مهنة صناعة المراكب الخشبية مهنة عريقة وتراث حى عرفت به مدينة المطرية على مدار سنوات طويلة، وتحاول الأجيال الجديدة الحفاظ عليه، لاستكمال مسيرة نجاح آبائهم وأجدادهم، موضحا أن دراسته وتخرجه من كلية التجارة أفادته كثيرا فى تطوير مجال عمله فى صناعة المراكب الخشبية، حيث عمل على تطويع أساليب العمل الحديثة فى المهنة لتتواكب مع تطور الحياة وتغير طبيعة المهنة، فنجح فى مواجهة كل ما تعانى منه المهنة من صعوبات تهدد استمراريتها كارتفاع أسعار المواد الخام المستخدمة فى صناعة المراكب وقلة العمالة بها ونجح فى تطوير ورشة والده واستقطاب عدد أكبر من الزبائن والوصول بالمراكب والسفن التى تصنعها ورشة والده بكل أشكالها وأحجامها لجميع مدن مصر كالإسماعيلية والسويس والإسكندرية وأسيوط والقاهرة والشرقية، ودول العالم كالإمارات وليبيا.
وقال إن صناعة المركب الخشبى، تعتمد فى الأساس على الغاية والهدف من تشييده، والتصميم والشكل الذى يرغب فيه الزبون، مشيرا إلى أن مهمتهم تكمن كورشة صناعة مراكب، هى تحديد مقاسات وتصميم المركب وطبيعة وجودة الخامات التى يتطلبها تصميمه بناءا على الغرض من استخدامه، فالصياد يحتاج دوما لمركب يوفر له الراحة أثناء عمله، وتبدأ مهمة صناعة المركب الخشبى بتجهيز العمال لمقاسات خشب "البياض، والسويد، والكافور، والتوت"، المستخدم فى صناعة هيكل المركب، ويقوم النجار بدوره بتقطيع الأخشاب لقطع وتهذيبه وفقا لطول وعرض المركب وحجم الضلوع، ومن ثم يتم البدء فى تكوين الهيكل الداخلى للمركب من أسفل إلى أعلى، فيتم تركيب العمود الفقرى فى قاعدة المركب، ومن ثم تركيب الضلوع المصنعة من أخشاب "التوت، والكافور" أجود أنواع الخشب لمتانته وقدرته على تحمل المياه والظروف البيئية المختلفة، فتصف ألواح الخشب الداخلية للمركب بجانب بعضها البعض، وبعدها يتم إعداد الهيكل الخارجى له وتجليده باستخدام أخشاب السويدى، ومن ثم تغليف المركب بمادة الفايبر العازلة التى توفر للمركب الصلابة والقوة والثبات، والأصبغة المختلفة، مؤكدا على أن عملية صناعة المركب عملية طويلة ومتكاملة تستمر لفترة زمنية طويلة، تشتمل على مراحل عديدة يشترك فى تنفيذها عدد كبير من العمال الحرفيين والمهرة، الذين يتخصص كل واحد منهم فى القيام بدور محدد أثناء تشييد المركب، فمنهم من يقطع الخشب وينعمه، ويشكل الهيكل الداخلى والخارجى للمركب، ومنهم من "يسنفر" الخشب، ومن يقوم بتغليف المركب بالفايبر، ومن يقوم بطلاء المركب بالألوان، وأخيرا الرسام والخطاط الذى يبدع فى كتابة عبارات جذابة على الهيكل الخارجى للمركب لتحكى وتعبر عنها.
وأوضح أنه لا يزال فى رحلة التعلم واكتساب الخبرات، فكل ما اكتسبه من والده من علم وخبرة وكل ما تعلمه من فترة وجوده وعمله فى الورشة ليس نهاية المطاف بل هو دوما بداية لمرحلة جديدة وخطوة أكبر لتعلم أشياء أكثر لتطوير المهنة بشكل أفضل وتحقيق حلمه فى الحفاظ على إرث والده وأجداده والتطوير من الورشة والوصول لمراكب وسفن والده لجميع دول العالم، مشيرا إلى أنه منذ اللحظة الأولى لنزوله إلى ورشة والده وتعلمه لمهنة صناعة المراكب الخشبية قرر أن يتميز وينجح ويستفيد من خبرة والده الطويلة فى المجال والذى لا يزال يعمل ببراعة ودقة فى صناعة أجمل السفن والمراكب التى يعجز كثيرون عن صناعتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة