"التنمية المستدامة".. حلم تبنته "الجمهورية الجديدة"، منذ ولادتها، لتضعه على عاتقها، باعتباره السبيل الوحيد لتلبية نداء ملايين المصريين، الذين احتشدوا في الميادين، بعد عقود من الإهمال والتهميش تجلت في العديد من الظواهر أبرزها البطالة وانتشار العشوائيات في أرجاء الوطن، من جانب، وتحقيق الاستقرار واستعادة الحالة الأمنية بعد سنوات الفوضى من جانب آخر، ليصبح مفهوم التنمية في رؤية "دولة 30 يونيو"، مرتبطا بصورة مباشرة بحياة المواطن، بعيدا عن الاعتماد المطلق على أرقام "صماء"، تمثل نموا اقتصاديا ولكن دون تنمية حقيقية، من المفترض أن تنعكس على المصريين وحياتهم، ومستوياتهم المعيشية، ناهيك عن القدرة على جذب مزيد من الاستثمارات، من شأنها تعزيز فرص النمو جنبا إلى جنب مع تحقيق تطلعات المواطن في "حياة كريمة".
وهنا يتجلى اختلافا كبيرا بين مفهوم النمو والتنمية، على اعتبار أن الثاني يبقى أكثر شمولا واتساعا، حيث يحمل في طياته أرقام النمو التى اعتمدت عليها العهود السابقة للترويج لنفسها، بينما يمتد إلى كافة مناحي الحياة، سواء اقتصاديا او اجتماعيا، وحتى على المستوى الأمنى في ظل علاقة وثيقة بين تفشي الفكر المتطرف وأزمات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية، على غرار البطالة، ليصبح تحقيق التنمية المستدامة ضلعا ثالثا في مثلث الحرب على الإرهاب، التى شملت بعدا أمنيا تقليديا يقوم على استهداف معاقل الميليشيات المتطرفة، واخر فكريا يعتمد على تصحيح الأفكار المغلوطة.
إلا أن "الجمهورية الجديدة" لم تكتف، على ما يبدو، بحدودها، فيما يتعلق بالتنمية ببعديها الشامل والمستدام، لتمتد إلى محيطها الجغرافي والاقليمي، في خطوات من شأنها تعميم التجربة المصرية، عبر مسارين، أولهما من خلال العلاقات المباشرة مع الدول الأخرى ونقل الخبرات والرؤى فيما يتعلق بالقضايا التنموية بالإضافة إلى تحقيق الشراكات، سواء ثنائية أو ثلاثية مع مختلف دول العالم، بينما الثانى يعتمد على التعاون مع المظلات الدولية الجماعية، سواء الامم المتحدة او الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي، وهو ما يتجلى على سبيل المثال في الأسبوع العربي للتنمية المستدامة الذى تعقده حاليا الجامعة العربية تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمناقشة التقرير المصري حول عملية التمويل.
ولعل أهمية هذا الحدث تتجسد في إطار رؤية مصرية شاملة، تقوم على مواصلة عملية التنمية ليس فقط في أوقات الاستقرار وإنما أيضا في زمن الازمات، على غرار زمن الوباء، حيث يبقى نجاح الدولة المصرية في مواصلة معدلات النمو الاقتصادى في ظل كورونا، انعكاسا صريحا ليس فقط على قدرتها على إدارة الملف الاقتصادى في الداخل وإنما أيضا تقديم نموذجا ملهما من شأنه تعزيز قدرات دول الجوار عبر نقل التجارب وتبادل الخبرات وتحقيق أكبر قدر من الشراكات التي تعود بالنفع على الجميع.
الأمر لا يقتصر على مجرد الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة وإنما يمتد كذلك إلى إدارة الأزمات سواء كانت الطبيعية، على غرار الاوبئة او التغيرات المناخية، أو التقليدية سواء الأهلية أو الدولية عبر تعظيم المصالح المشتركة بين الأطراف المتصارعة، فيما أسميته في مقال سابق "دبلوماسية بناء التعاون"، والتي من شأنها إذابة الخلافات عبر العمل معا على تحقيق الأهداف المشتركة، وتعظيمها لتتضاءل أمامها الأبعاد التنافسية والصراعية، التي ساهمت في تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى "كرة من لهب"، أحرقت دولا بأكملها، وراح ضحيتها ألاف البشر ناهيك عن تمدد الجماعات الارهابية لتتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية وتصبح تهديدا لكل دول العالم بمختلف تصنيفاتها وامكاناتها.
وهنا يمكننا القول بأن مصر تتحرك على رسم "شرق أوسط" جديد، ليس من منطلق الفوضى التي سعى الغرب لإرسائها قبل سنوات، وإنما من خلال إعادة البناء وتحقيق الاستقرار وخلق الحافز لتحقيق النمو والتنمية بما يعود بالنفع على الشعوب، بعيدا عن سياسات تأجيج الصراع التي تبنتها القوى الدولية لتقسيم الدول وإضعافها، وهو ما يفسر أولوية البعد العربي، تحت مظلة جامعة الدول العربية، باعتباره الاكثر تضررا من تلك السياسات، وهو ما يشهد عليه العقد الأخير الذى شهد تغييرات عميقة في بنيتها، وحملت تداعيات كبيرة على الشعوب.
الرؤية المصرية تحمل انعكاسا صريحا لاستراتيجية تهدف إلى إدارة صراعات المنطقة بأسلوب تنموي، تبقى في الأولوية للإنسان، وتحسين أحواله ليكون قادرا على مجابهة الأزمات، وبالتالي يمكنه أن يكون منتجا ونافعا لبلاده، بينما تساهم في إدارة الصراعات الاقليمية، كخطوة تساهم في إذابتها في المستقبل، لتحقيق الاستقرار الشامل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة