تبدو زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنيسكي، للولايات المتحدة، بمثابة "نقطة فارقة"، في الصراع الحالي مع روسيا، في ضوء العديد من المعطيات، ربما أبرزها الأولى لزيلنيسكي خارج بلاده، منذ بدء العملية العسكرية الروسية، حيث اعتمد على زوجته، أولينا زيلنيسكا، في إجراء العديد من الزيارات الخارجية، لحشد الدعم الدولي لبلاده، في الأشهر الماضية، في إطار ما يمكننا تسميته بـ"دبلوماسية" السيدة الأولى، والتي زارت واشنطن ولندن، لتلتقي بالزعماء، وتخاطب البرلمانيين، عن المأساة التي تشهدها بلادها، في إطار دفع القوى الكبرى نحو القيام بدور أكبر في دعم كييف في مواجهة موسكو، في الوقت الذى التزم فيه الرئيس بوجوده داخل بلاده مرتديا زيه العسكري، في إطار "دبلوماسية الحرب"، والتي لم يتخلى عنها حتى في زيارته الخارجية الأولى، وبدا حريصا على الظهور بها أمام نظيره الأمريكي وفي الكونجرس.
وبين دبلوماسيتي "السيدة الأولى"، والتي تبنتها زيلنيسكا، و"الحرب"، والتي ظهرت بجلاء في زيارة زيلنيسكي إلى الولايات المتحدة، نجد أن ثمة دورا جديدا لـ"زوجة الرئيس"، في إدارة الصراع الدولي، بعيدا عن الدور المجتمعي العام الذي تقوم به في إطار محاولة لإضفاء قدر من "النعومة"، على السياسات المرتبطة بحالة الحرب القائمة، في ظل أحد أشرس الصراعات الدولية القائمة، ناهيك عن استقطاب أكبر قدر من التعاطف الدولي مع الأوكرانيين في إطار التركيز على حجم المعاناة، والجانب الإنساني، وهو ما بدا في معظم التصريحات التي خرجت بها في تلك الزيارات، ليثور التساؤل حول ما إذا كان الهدف منها هو انغماس الحلفاء في الغرب لحسم الأمور عسكريا على الأرض أم للتحول نحو مرحلة جديدة من التفاوض، من شأنها الخروج بأكبر قدر ممكن من المكاسب في المرحلة المقبلة.
وللحقيقة، تبدو احتمالية انغماس الولايات المتحدة أو دول أوروبا الغربية في الحرب ضد موسكو مستبعدة، في ظل عدم القدرة على مجابهة تداعيات تلك الخطوة في الداخل، وهو ما بدا منذ اللحظة الأولى لاندلاع العملية العسكرية الروسية، ناهيك عن الحديث الغربي، سواء من قبل المسؤولين الرسميين، على غرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أو الدبلوماسيين ذوي الباع الطويل في السياسة الدولية، ومنهم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، عن ضرورة التفاوض مع موسكو، لإنهاء المأساة الراهنة، والوصول إلى حلول ملموسة، تعتمد في الأساس على طمأنة الجانب الروسي، والذى يرى التوغل الغربي إلى محيطه الإقليمي في إطار حلف الناتو، تهديدا أمنيا صريحا له، ناهيك عن سياسات الغرب، في القلب منه أمريكا، خلال السنوات الماضية، والتي باتت تعتمد نهجا قائما على الانسحاب العسكري من العديد من مناطق العالم، بسبب الأوضاع الاقتصادية، والفشل الذريع في تحقيق الأهداف التي تدخلت من أجلها منذ البداية.
وعلى الرغم من الوعود الأمريكية بدعم أوكرانيا ماليا بحوالي 47 مليار دولار، وامدادها بمنظومة "باتريوت" بالإضافة إلى التزام زيلنيسكي بالزى العسكرى، وهو ما يضفي "صبغة" تصعيدية للصراع مع روسيا، إلا أن الكواليس ربما تحمل أفاقا تميل إلى التفاوض الذي يحمل في طياته ازدواجية، بين إطارين، أولهما يبدو "ناعما"، ظهر في زيارات السيدة الأولى للخارج، بينما لم تتخلى، في الإطار الثاني عن "خشونة" الحرب القائمة، ليصبح العالم على أعتاب حالة من التفاوض "الخشن"، بين الغرب وروسيا، حول العديد من القضايا الخلافية، أبرزها الموقف من انضمام أوكرانيا إلى الناتو، والمناطق التي ضمتها موسكو إلى أراضيها.
وتعد حالة "التفاوض الخشن" التي تتمخض عنها الأوضاع الحالية بين روسيا والغرب، امتدادا لما سبق وأن وأسميته في مقال سابق بـ"السلام الساخن"، والذى يعتمد فكرة الخصومة التنافسية، القائمة على التعاون، في إطار العمل على تحقيق المصلحة الجمعية في الإطار الإقليمي والدولي، إذا ما وضعنا في الاعتبار العديد من العوامل أبرزها التأثيرات الكبيرة للمعركة على الاقتصاد العالمي، خاصة في أوروبا الغربية، والتي انقسمت حول القيادة الأمريكية جراء تقاعسها عن القيام بدور حقيقي لاحتواء الأزمة الحالية، لتصبح المنح الأمريكية لأوكرانيا، في جوهرها، أشبه بـ"تعويض" عن الخسائر والاضرار الناجمة عن شهور الحرب الماضية، أو التنازلات التي ستقدمها في إطار تفاوضي في المستقبل، مع مساندة كييف دبلوماسيا في حربها المقبلة خلال المفاوضات مع موسكو.
العملية التي سوف تتمخض عنها المرحلة المقبلة من عمر الصراع في أوكرانيا، لن تقتصر في أطرافها على روسيا والغرب، وإنما سوف تتداخل فيها قوى دولية أخرى، على غرار الصين، والتي شهدت علاقتها مع الولايات المتحدة، تقدما كبيرا، في ظل القمة التي جمعت بين الرئيسين بايدن وشي جين بينج في نوفمبر الماضي، والاعتراف الأمريكي بمبدأ "الصين الواحدة"، في خطوة عملاقة لتخفيف حدة التوتر، على خلفية تنافسية، وهو ما يرتبط في جزء منه، التقريب بين الخصوم في الأزمة الأوكرانية، في ضوء شراكة كبيرة، وغير خافية بين موسكو وبكين، وبات من الصعب تفكيكها.
وهنا يمكننا القول بأن الأزمة الأوكرانية، ربما تصبح أحد أبرز النماذج لحقبة "السلام الساخن"، إذا ما تمكن الغرب وموسكو في التوصل إلى خطوات تفاوضية حقيقية من شأنها التقريب بين الجانبين، وبالتالي التخفيف من حدة الصراع الراهن، عبر تحويله إلى إطار تنافسي، من شأنه احتواء الأزمة اللحظية، مع العمل في المستقبل نحو تحسين الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، في إطار جماعي، بعيدا عن الهيمنة المطلقة التي سادت العالم لعقود طويلة من الزمن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة