يبدو أن انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، بالعاصمة الأردنية عمان، بمثابة ترسيخ لمنصة إقليمية جديدة، تحمل أهمية كبيرة فى المرحلة الراهنة، فى ظل إعادة ترتيب "البيت الإقليمى"، فى منطقة الشرق الأوسط، بحيث يتواكب مع المعطيات الدولية الجديدة، والتى باتت تحمل أبعادا جديدة، للعديد من المفاهيم السائدة، منذ عقود طويلة من الزمن، والتى اعتمدت نهجا منعزلا، بعيدا عن النطاق الأكثر اتساعا، وهو ما ساهم فى زيادة حدة المنافسة، بين القوى المؤثرة، فى المنطقة، إلى حد الصراع على أساس الهوية أو المذهب أو الطائفة أو الدين، ليمتد نطاق التناحر من المستوى "البينى"، بين دول الإقليم، إلى الحروب الأهلية، وما ترتب على ذلك من ظهور تنظيمات إرهابية تجاوزت فى تهديدها حدود الدول التى تتمركز بها، إلى نطاق إقليمى ودولى أوسع.
ولعل العراق أحد أكثر الدول التى عانت، خلال ما يقرب من عقدين، جراء حالة الاستقطاب الإقليمي، جراء التداخل الدولى والإقليمي، فى المشهد الداخلى، بينما تفاقمت الأمور، بعد ذلك مع بزوغ تنظيم "داعش" الإرهابي، فى ظل فوضى إقليمية هيمنت على الشرق الأوسط فى العقد الماضى، سمحت له بالتمدد إلى دول الجوار أولا، ثم الانتقال نحو مناطق أخرى من العالم، وتهديد أمنها لتبقى الحاجة ملحة، فى اللحظة الراهنة، إلى عملية "إعادة بناء"، ربما لا تقتصر على مجرد احتواء أثار الصراعات فى المحافظات والمدن ببلاد الرافدين، وإنما تبدو أكثر شمولا، عبر ترسيخ المفاهيم الجديدة، سواء فى الداخل العراقى أو على المستوى الجمعى للإقليم بأسره، فى إطار يبدو منسجما، ومتسقا مع الأوضاع العالمية الراهنة، عبر تعزيز مفهوم الدولة الوطنية من جانب، والهوية العربية للعراق من جانب آخر، ناهيك عن إرساء مبدأ الحوار لحل الخلافات القائمة، بعيدا عن النهج القائم على حشد الميليشيات التى من شأنها إثارة المزيد من الفوضى والخراب من جانب ثالث.
فلو نظرنا إلى مفهوم "إعادة الإعمار"، ربما نجد أنه ارتبط فى الحقب السابقة على بناء المناطق التى دمرتها الحروب، عبر تقديم دعم مادى، من القوى الدولية الكبرى، فى إطار التزامها باستعادة الاستقرار، دون معالجة حقيقية لأسباب الصراع، لتذهب الجهود المبذول سدى، مع أول خلاف ينشب بين أطراف المعادلة السياسية فى الداخل، بينما تسعى القوى الإقليمية المتصارعة على تأجيجه، لتحقيق مصالحها وتوسيع نفوذها عبر السيطرة على مقدرات الدول الأخرى.
وهنا يمثل مؤتمر بغداد "سبقا" مهما، فى منطقة الشرق الأوسط، فى إطار ما يمكننا تسميته بـ"إعادة هيكلة" المفاهيم المرتبطة بـ"إعادة الإعمار"، والتى باتت تقوم على عملية "بناء" شاملة لا تقتصر على الأبنية الصماء، إنما تحمل بين طياتها أبعادا أخرى من "لحم ودم"، تعتمد نهجا يقوم على صياغة جديدة للوعى الجماعى فى الداخل العراقي، يؤهلهم للتعامل مع خلافاتهم فى الداخل، أو فيما يتعلق بإدارة علاقاتهم الدولية والإقليمية، بعيدا عن الصراع.
الأبعاد الجديدة لمفهوم "إعادة الإعمار"، والذى يتمخض عنه مؤتمر بغداد، يتجاوز الداخل العراقي، إنما يمتد إلى النطاقين الإقليمى والدولى الأكثر اتساعا، وهو ما يتجلى فى مسارات ثلاثة، أولها عربيا، على اعتبار أن المؤتمر يأتى فى جوهره "ثمرة"، لجهود عربية خالصة، لترميم دولة عانت جراء حروب متواترة ومتنوعة، بين صراعات ذات طابع إقليمي، على غرار الحرب مع إيران فى الثمانينيات من القرن الماضى، تارة، وأخرى ذات طابع دولي، فى ظل صراع مع الغرب فى التسعينيات، أفضى إلى الغزو الأمريكى فى 2003، ليفتح الباب أمام تناحر "أهلى"، تداخلت فيه العديد من القوى الدولية والإقليمية وساهمت فى تأجيجه، فى إطار حرب "بالوكالة"، بينما فشلت سياسة الدعم المقدم من خارج حدود الإقليم، فى إنقاذ الدولة المترنحة، أو تحقيق أى قدر من الاستقرار طيلة العقود الماضية.
ويعد مؤتمر بغداد "الثمرة"، التى جناها العراق جراء الشراكة العربية، مع كلا من مصر والأردن، والتى انطلقت فى شهر يونيو من العام الماضى فى العاصمة العراقية، حيث جاءت نسخته الأولى بعدها بأقل من شهرين، فى انعكاس صريح للبعد الإقليمى الجديد، فى حل أزمات المنطقة، ليشهد نطاق أوسع يتجاوز الطابع "الثلاثي" للشراكة، عبر مشاركة قوى أخرى فى المنطقة العربية، على غرار المملكة العربية السعودية، والإمارات، والبحرين، والكويت وسلطنة عمان وقطر بالإضافة إلى جامعة الدول العربية، والتى تأتى مشاركتها تعزيزا لهوية العراق اللغوية والثقافية.
بينما يبقى المسار الثانى ذو طابع إقليمي، يتجسد فى تجاوز الإطار العربى نحو مساحة جغرافية أوسع، فى إطار مشاركة قوى إقليمية أخرى، وعلى رأسها إيران وتركيا، وهو ما يمثل "سابقة" أخرى تمثل إمكانية تحويل حدة الصراع القائم على القيادة فى منطقة الشرق الأوسط إلى منافسة، يمكن أن يتخللها التعاون، لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، وهى الحالة التى يمكن تعميمها فى المستقبل، لتحقيق المصالح المشتركة على المستوى الجمعى للمنطقة بأسرها، وهو ما يمثل "نقطة انطلاق" مهمة نحو الاستجابة للأوضاع الدولية الراهنة، مع بزوغ الأزمات المستحدثة والتى تتسم بتمددها الجغرافى وامتدادها الزمني، إلى الحد الذى تعجز معه أى دولة بمفردها مهما بلغت إمكاناتها من احتواء أثارها دون توسيع نطاق التعاون على المستوى الدولى الأوسع، وفى القلب منه دول الجوار الإقليمى.
وأما عن المسار الثالث، فى أسبقية مؤتمر بغداد، فيبدو فى اتساع دائرة المشاركة إلى مناطق أخرى، بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط، فى ظل وجود قوى دولية أخرى، على غرار فرنسا والاتحاد الأوروبى، فى انعكاس صريح للتحرك نحو تحقيق حالة من التكامل "متجاوز الإقليم"، إلى نطاق دولى أوسع من شأنه، تحقيق المزيد من الانفتاح الإقليمى، على المستوى الجمعى، على مناطق أخرى من العالم، وهو ما يعزز المساعى الراهنة، والتى تهدف فى الأساس إلى توسيع دائرة التعاون الدولى، عبر إشراك القوى المؤثرة فى العالم، فى علاج الأزمات من جذورها، وتقديم حلول لها، فى إطار من الشراكة الدولية، بعيدا عن سياسة الاكتفاء بالدعم التقليدية، والتى لم تفلح فى انتشال العراق أو غيره من الأزمات التى تلاحقه لسنوات.
وهنا يمكننا القول بأن أهمية مؤتمر بغداد تتجاوز فى جوهرها أزمة دولة، ربما عانت كثيرا جراء سقوطها فى مستنقع من الصراع الدولى والإقليمى لسنوات، وإنما تمتد إلى كونه نموذجا مهما يمكن تعميمه فى إطار إعادة تشكيل الوعى الجمعى على المستوى الإقليمى بالكيفية، التى يمكن من خلالها إدارة العلاقات على مستوى الإقليم، للخروج من دائرة الصراع البيني، وتحقيق الاستقرار من جانب، أو تحقيق التواصل مع نطاق جغرافى أوسع من العالم عبر شراكة مثمرة لا ترتكز على الحصول على الدعم المادي، وإنما التعاون الفعلى لتقديم حلول ملموسة للأزمات القائمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة