بعد مرور ما يقرب من 9 أشهر في عمر الصراع الروسي الأوكراني، يتساءل البعض، ماذا تقدم موسكو وكييف للعالم حتى تحدث كل هذه التبعات الاقتصادية؟ وما تلاها من طفرات تضخمية اجتاحت أغلب دول العالم، وأوروبا في القلب منها، بعدما باتت على شفا أزمات حادة، نتيجة قرب حلول فصل الشتاء، بالتزامن مع نقص إمدادات الغاز، بالإضافة إلى ندرة واضحة في المنتجات الغذائية والحبوب، لذلك أحاول في السطور التالية التعرف على القدرة الاقتصادية والسياسية لكل من روسيا وأوكرانيا بالنسبة لأوروبا والعالم.
في البداية يجب أن تعرف عزيزي القارئ أن 40% من الغاز الأوروبي يتم استيراده من روسيا، التي تحتل المرتبة الثانية عالمياً كأكبر الدول إنتاجاً للغاز، فيبلغ إنتاجها حوالي 701 مليار متر مكعب، بينما تعتبر الأولى عالمياً من حيث صادرات الغاز، بإجمالي 197 مليار متر مكعب سنوياً، بالإضافة إلى أنها مصدر مهم لإنتاج المعادن بصورها المختلفة، ومن الدول الرائدة في إنتاج "النيكل"، المستخدم في صناعة بطاريات السيارات، بالإضافة إلى البلاديوم، وهو عنصر من الفلزات النادرة، المستخدمة في أجهزة تنقية عوادم السيارات الحديثة، ويسهم نقصه في تعطيل صناعة السيارات على مستوى العالم.
روسيا تنتج حوالى 20% من إجمالي محصول القمح في العالم كله، وتصدره لعشرات البلدان، بالإضافة إلى ما يقرب من 8 ملايين طن من الحبوب المختلفة، وهذا وفق تقرير لوكالة بلومبيرج، لذلك تحتل موسكو أهمية خاصة للعديد من الدول، فتعتبر مع جارتها أوكرانيا بمثابة سلة غذاء للعالم كله، ولم نكن نعرف هذه الحقيقة إلا في الـ 9 أشهر الماضية، بعدما ارتفعت معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة، واضطربت سلاسل الإمداد حول العالم بشكل دفع اقتصاديات العديد من الدول لوضع خطط طوارئ لمواجهة الأزمة.
على الناحية الأخرى تمتلك أوكرانيا الأراضي الزراعية الأكثر خصوبة وجودة في العالم كله، خاصة أن 71% من مساحتها أراضٍ زراعية، لذلك تمد العديد من دول العالم بالقمح والشعير والذرة، وتنتج ما يقرب من 50 مليون طن من الحبوب، التي يتم توجيهها إلى عشرات الدول، على رأسهم الصين، الهند هولندا، مصر، تركيا، إسبانيا، بولندا، إيطاليا، وألمانيا، بالإضافة إلى إمداد بعض هذه الدول بصادرات لعدد من المحاصيل مثل بنجر السكر والطماطم والخيار والبصل والثوم.
في تقرير لـBBC الإنجليزية كشف أن أوكرانيا تنتج حوالي 42% من زيت عباد الشمس حول العالم، وهذا يفسر النقص الشديد فيه داخل أوروبا في الوقت الراهن، بالإضافة إلى 16% من إنتاج الذرة، و9% من إنتاج القمح، كما أنها تتمتع بالاكتفاء الذاتي من اللحوم والدواجن، وتصدر نحو 450 مليون طن سنوياً، إلى العديد من الدول مثل السعودية، هولندا، الإمارات، بيلاروسيا، أذربيجان وكازاخستان، إلى جانب تصدير منتجات البيض والأجبان والألبان إلى تلك الدول، كما تتحكم كييف في جزء كبير من إنتاج عسل النحل عالمياً باعتبارها ثالث أكبر منتج له، والأول على مستوى أوروبا.
أوكرانيا لا يتوقف دورها عن الحبوب والسلع الغذائية فقط، بل تعتبر عنصر مهم في الصناعات الاستراتيجية، فهي ثامن منتج للصلب عالمياً، وثالث أكبر مصدر له، وقد جاء تدمير مدينة ومرفأ ماريوبول في جنوب شرق أوكرانيا نكبة كبيرة على صناعة الصلب في العالم كله، أدت إلى ارتفاع أسعارها بصورة غير مسبوقة، نتيجة توقف المصانع، بالإضافة إلى أن 70 % من منتجات الصلب يدخل الغاز الطبيعي في إنتاجها، وهذا يؤثر بصورة كبيرة مستويات أسعار خاماتها الأساسية.
خريطة ثروات روسيا وأوكرانيا كفيلة أن تحدث تأثيرات عميقة على الاقتصاد العالمي، تستمر لسنوات طويلة، مادامت وتيرة الحرب دون نتائج واضحة أو مبشرة بحلول سياسية في القريب العاجل، لذلك لا عجب من التبعات الكارثية على الاقتصاد العالمي، نتيجة هذه الحرب، التي انعكست بصورة مباشرة على السلع الأساسية التي يقاس التضخم بناء على أسعارها، باعتبارها مقياس حقيقي لحجم الاستهلاك والإنفاق في العالم كله.
خطورة نقص أو اضطراب سلاسل الإمداد في العالم كله، لا تنعكس فقط على نقص السلع أو تأثر صناعات بعينها، لكن لها تبعات مباشرة على مناخ الاستثمار والأعمال ومعدلات النمو، وتسهم في أن يتجه كل مستثمر إلى خطط بديلة واستراتيجيات مختلفة للتوسعات المستقبلية، فالمشكلة أكبر من سلعة تشهد نقصاً في الأسواق أو رغيف خبز ارتفعت أسعاره، لكن الموضوع مرتبط بدروة اقتصاد تتعرض للخلل، إلى جانب تغير أولويات العديد من الدول، التي تتأثر بصورة مباشرة بالأزمة، وتعيد ترتيبها من التوسع والنمو إلى اقتصاد الخوف وتأمين الحاجة.
قبل 9 أشهر لم نكن نعلم الأهمية الكبيرة لروسيا وأوكرانيا بالنسبة للعالم، وكنا نتحدث عن حرب تبعد عنا آلاف الكيلومترات، ولسنا مع أو ضد أي من أطرافها، ولم نعرف أن التأثيرات الاقتصادية والسياسية المباشرة وغير المباشرة أشبه بتسونامي يعصف بالعالم شمالاً وجنوباً دون رحمة، وتذهب معه أشواط كبيرة قطعتها العديد من الدول النامية، و الاقتصادات الناشئة، التي ستدفع الفاتورة مضاعفة، رغم أنها ليست طرفاً مباشراً في الحرب، لذلك يجب أن ندرس حجم الأزمة جيداً، ونتحوط للمستقبل، الذي لا يشي بانفراجه قريبة، وهذا يدعونا إلى بذل الكثير من الجهد، حتى نخرج من هذه المرحلة الصعبة ونتجاوز نتائجها السلبية بأقل الخسائر الممكنة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة