حالة مخاض، يشهدها النظام الدولي، في المرحلة الراهنة، سوف تساهم لا محالة في انهيار الحالة الأحادية القائمة، والتي تعتمد قوى واحدة حاكمة للعالم، والتحول نحو التعددية، وهو ما يتجلى في بزوغ قوى جديدة فرضت نفسها بقوة على الساحة العالمية، وعلى رأسها روسيا والصين، بالإضافة إلى بروز الدور الذى تلعبه القوى الإقليمية، بعيدا عن الأطر المرسومة لها من قبل القوى الحاكمة وهو ما منحها المزيد من حرية الحركة، خاصة مع تنامي الأزمات، واتساع نطاقها الجغرافي والزمني، لأبعاد غير محدودة، على غرار الوباء والمناخ والصراع في أوكرانيا، وتداعياتهم الكبيرة، بالإضافةإلى توارى دور القوى الحاكمة في العالم، وعدم قدرتها على مجابهة التحديات بمفردها.
ولعل الحديث عن دور القوى الإقليمية في النظام الدولي الجديد، قد سبق وتناولته في مقال سابق، حول ما أسميته "إعادة توزيع القيادة الدولية"، ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كانت الأقاليم، بصورتها الحالية، مؤهلة لمواكبة المستجدات، وقادرة على مجابهة الأزمات الجديدة، خاصة مع العديد من المعطيات، أبرزها الفروق الكبيرة في الإمكانات بين دول منطقة معينة من العالم ومناطق أخرى، ناهيك عن قدرة الأزمات المستحدثة على الامتداد في تداعياتها، وهو ما تجلى في أبهى صوره، في أزمة تفشي كورونا، والتي اندلعت في الصين، بينما لم يستغرق الأمر سوى أسابيع قليلة، ليصبح الوباء عنوانا عالميا، مسيطرا على الكوكب بأسره، وهو ما ينطبق على قضية التغيرات المناخية وكذلك التداعيات الكبيرة على الأزمة الأوكرانية.
الصورة الجديدة للأزمات الدولية، في ظل قدرتها الكبيرة على الامتداد والتمدد، ربما تفرض ما يمكننا تسميته بـ"إعادة رسم الخريطة الإقليمية" للعديد من المناطق الجغرافية في العالم، عبر تحقيق حالة من الانفتاح، على مناطق أخرى من العالم، بما يفتح الباب أمام المساهمة بفاعلية، في تحقيق طفرات كبيرة، في التعامل مع الأوضاع العالمية الراهنة، عبر توسيع دائرة التكامل وتبادل الخبرات، بعيدا عن نهج "الجزر المنعزلة"، والذي اتبعته القوى الكبرى في التعامل مع تحديات المناطق البعيدة، تحت ذريعة ابتعادها عن الخطر، ليقتصر دورهم، طيلة العقود الماضية، على مجرد تقديم دعم مالي محدود، يبدو مرهونا بالدوران في أفلاك سياسية معينة، بينما يصبح تقليصه أو منعه في سلطة الدول المانحة، دون التقيد بمسارات ملزمة، تفي بدورهم في حماية الأمن والسلم الدوليين، وهو النهج الذي دفع إلى الحالة الراهنة المتمثلة في تراجع قوى كبيرة، على غرار أوروبا، جراء تواتر الأزمات عليها، وصعود قوى أخرى جديدة تمكنت من القيام بدور يتجاوز علاج أزماتها في الداخل، نحو احتوائها في مناطقها الجغرافية.
فلو نظرنا إلى تداعيات الأزمة الأوكرانية، على سبيل المثال، والتي تمثل، إلى جانب أزمات أخرى، تهديدا لأمن الطاقة والغذاء، نجد أن تحقيق حالة من التكامل الدولي على المستوى الاقتصادي، هو السبيل الأنجع في هذا الإطار، وهو الأمر الذي يتجاوز النطاق الإقليمي الضيق، نحو أفاق أوسع، وبالتالي يتطلب "إعادة رسم خريطة الأقاليم" لتتجاوز الجغرافيا التقليدية، خاصة مع وجود موارد في بعض المناطق، بينما تبقى منعدمة في مناطق أخرى، على غرار الغاز الطبيعي، والذي كان اعتماد الغرب للحصول عليه بشكل أساسي، من روسيا، بينما أصبح الأمر بمثابة أزمة حقيقية مع حالة التناحر السياسي الراهنة، على خلفية الأوضاع في أوكرانيا، وبالتالي فيصبح التكامل الإقليمي، في صورته العادية، غير مجدى، في ظل تشابه الموارد والإمكانات داخل معظم الأقاليم التقليدية.
"إعادة رسم الخريطة الإقليمية" ليست فكرة جديدة تماما، فقد بدأت إرهاصاتها مع ميلاد بعض المنتديات الدولية، على غرار "الاتحاد من أجل المتوسط"، والذى ولد في 2008، برئاسة مصرية فرنسية مشتركة، ليقدم نموذجا للقيادة المشتركة، في إقليم متسع، يتجاوز الجغرافيا الإقليمية التقليدية، من خلال تحقيق الشراكة بين دول شمال المتوسط وجنوبه، بهدف إحياء "عملية برشلونة" التي يرجع تاريخها إلى التسعينات من القرن الماضي، إلا أن فروق الإمكانات، ناهيك عن المحدودية الجغرافية للأزمات، ساهمت في تحديد الدور الذي يقوم به، في تقديم حلول للأزمات الجديدة التي يشهدها العالم.
إلا أن الحاجة تبدو ملحة لدور أكبر، لهذه المنظمة، ليصبح أكثر شمولا عبر التعامل مع مختلف القضايا التي تواجه مناطقها، وتعميمها، في العديد من مناطق العالم، بالاضافة إلى العمل الفردى من قبل الدول لتوسيع دوائرها الإقليمية، مع تغير طبيعة الأزمات، وتوسع نطاقها على النحو سالف الذكر، وهو ما يتم العمل عليه في العديد من المشاهد الأخيرة، ربما أبرزها التحرك المصري على توسيع التعاون مع الدائرة المتوسطية، سواء فرديا، على غرار التعاون مع اليونان وقبرص في مجال الغاز الطبيعي، وهو ما أثمر عن ميلاد "منتدى غاز شرق المتوسط"، أو في مجال مكافحة التغيرات المناخية،
عبر إطلاق منتدى الهيدروجين الأخضر بالشراكة مع بلجيكا، والتي تعد عاصمة الاتحاد الأوروبي.
وهنا تبقى عملية "إعادة رسم الخريطة الإقليمية" للعالم ليست مجرد خيار عالمي، في ظل حاجة المجتمع الدولي لتحقيق أكبر قدر من التماسك، وحاجة الدول لبعضها من أجل تحقيق الاستقرار، في المرحلة الراهنة، لتجاوز الأزمات الجديدة، التي لم تعد مجرد تهديد لمنطقة بعينها، وإنما في حقيقتها أصبحت تهدد البقاء على كوكب الأرض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة