ربما أبرز ما اتسمت به السياسة المصرية في السنوات الأخيرة، كان قدرتها منقطعة النظير، في اقتحام نقاط الضعف، التي طالما كانت سببا رئيسيا في العديد من المعضلات والأزمات، وهو ما يتجلى، على سبيل المثال في سياسات الإصلاح التي شملت كافة جوانب الحياة، بين السياسة والاقتصاد، مرورا بالناحية الأمنية، عبر قرارات ربما كانت الدولة المصرية في حاجة إليها قبل عقود طويلة من الزمن، لتضعها في مكانة مختلفة، عبر تحقيق أكبر قدر من الاستقرار، ليس فقط من حيث المكانة والدور، وإنما أيضا لقطع الطريق أمام محاولات الابتزاز، التي مارستها القوى الطامعة في فرض كلمتها على العالم، عبر إجبار الدول على الدوران في فلكها مقابل الدعم، في مختلف صوره، سواء عبر تقديم الدعم السياسي للأنظمة الحاكمة تارة، أو من خلال سياسة المعونات الاقتصادية تارة أخرى.
ولعل نجاح الدولة المصرية في اقتحام ما يمكننا تسميته بـ"المناطق الرخوة"، تجلى في أبهى صوره في سياسات الإصلاح الاقتصادي، وما تلاها من مشروعات عملاقة، بالإضافة إلى الحرب على الإرهاب، ليس فقط بالأدوات التقليدية أمنية كانت أو عسكرية، وإنما تخللها جانبا فكريا مهما، يقوم في الأساس على دحض الأفكار المغلوطة التي سعت إلى نشرها جماعات الظلام والإرهاب لسنوات طويلة، لاستقطاب المواطنين لهم، ناهيك عن البعد الطائفي، والذي يمثل أحد أهم النقاط التي واجهت اختراقا مزدوجا، سواء من دعاة الفكر المتطرف، والذين سعوا إلى فرض قبضتهم عبر تأجيج الكراهية، من جانب أو من القوى الأجنبية، والتي وجدت فيها مدخلا مهما بل ورئيسيا للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة المصرية، وفرض رؤيتهم عليها، لأهداف بعيدة كل البعد عن حماية فئة من المواطنين، وإنما لتحقيق مصالحهم المتمركزة حول السيطرة والنفوذ، وهو ما تبين بجلاء بعد ذلك إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي"، عندما لعبوا الدور الأبرز في تمكين جماعات الإرهاب من السلطة في العديد من دول المنطقة، في إطار محاولات التقسيم، غير عابئين بمصير من نادوا بحمايتهم يوما ما.
وهنا تجلت رؤية "الجمهورية الجديدة"، عبر تعزيز مفهوم المواطنة، وهو المفهوم الذي لم يكن جديدا في تداوله، حيث تم تضمينه في الدستور المصري في عام 2007، في انعكاس صريح لمبدأ المساواة بين كل المصريين، إلا أن الخطوات العملية في تطبيقه ربما تأجلت حتى ثورة 30 يونيو، والتي أرست هذا المبدأ عبر تلاحم المصريين بمختلف فئاتهم، في الميادين، نحو هدف واحد، وهو إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي، بعد سنوات الفوضى، والإرهاب، لتأخذ الأمور منحى مختلف بعد ذلك، ربما بدأت بوادرها في الظهور، في خطاب 3 يوليو الشهير، والذى شهد "مباركة" الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، واللذان أعلنا معا تأييدهما لـ"ميلاد" دولة جديدة، يحكمها العدل والاستقرار والمساواة، والأمن، في انعكاس صريح لحالة من الانسجام بين الدولة المصرية من جانب، ومؤسساتها الدينية من جانب أخر، لم تخل بها سنوات الاستقطاب والانقسام والفوضى التي سبقت هذا المشهد التاريخي.
إلا أن الأمر لم يقتصر على مجرد مشهد "عابر" في لحظة تاريخية، وإنما تواصل عبر سياسات ومواقف عديدة، هدفت في الأساس إلى ترسيخ مفهوم الاعتدال، وهو ما تجلى في مبادرة "تعديل الخطاب الديني"، والتي كانت جزءً رئيسيا من معركة الدولة ضد الإرهاب، ناهيك عن العمل الدؤوب على "لحلحة" العديد من الملفات التي كانت حبيسة الأدراج لعقود، منها قانون بناء الكنائس وإعادة ترميمها، بالإضافة إلى الحرص على بناء كنائس في كافة المدن الجديدة، بينما كانت كاتدرائية "ميلاد المسيح" بمثابة "درة التاج"، والتي تم افتتاحها في 2019، كأكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط، جنبا إلى جنب مع مسجد "الفتاح العليم"، والذى يعد الأكبر في العالم، في رسالة تمثل انعكاسا صريحا لتفعيل مبدأ "المواطنة".
الاهتمام من قبل الدولة المصرية على تعزيز المساواة بين المواطنين لم يقتصر على الداخل، وإنما امتد إلى خارج الحدود، عندما تعلق الأمر بإزهاق أرواح أبنائها من الأقباط في ليبيا، عبر ضربة عسكرية استهدفت معاقل التطرف، تعكس بجلاء أن دماء المصري (أي مصري) ليست رخيصة.
ربما كانت معايدة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخير لأقباط مصر بعيد الميلاد المجيد من الكاتدرائية، ليست الأولى من نوعها، فقد أصبحت أشبه بـ"العرف" السائد، منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، إلا أنها هذه المرة تمثل أهمية خاصة، في ظل الرسائل الهامة والاستثنائية التي أطلقها خلال كلمته، والتي وصف فيها "الجمهورية الجديدة" بـ"القادرة وليست الغاشمة.. المسالمة وليست المستسلمة"، لتكون بمثابة إعلان عن سر قوة الدولة المصرية في السنوات الأخيرة، فقدرتها انعكاسا صريحا لوحدة أبنائها، بينما يبقى عدم استسلامها هو الثمرة التي تجنيها إثر خطوات كبرى لتعزيز المساواة بين كافة أبناء الشعب المصري، في الوقت الذى كان فيه الخنوع والاستسلام ثمنا للعديد من أوجه القصور في هذا الملف، خاصة فيما يتعلق بالجانب التوعوى والفكري، عندما تركت العديد من المنصات الإعلامية وبعض المنابر لأصحاب الرؤى المتطرفة، والذين طالما سعوا لتأجيج الفتنة بين أبناء الوطن الواحد.
وهنا يمكننا القول بأن اختراق ملف الطائفية، والذي يمثل أحد أهم "المناطق الرخوة" في السياسة المصرية، لعقود طويلة، يمثل أحد أبرز إنجازات "الجمهورية الجديدة"، حيث تبقى صاحبة الفضل الرئيسي وراء تفعيل حقيقي لمبدأ المواطنة، وكذلك النجاح الكبير في استعادة شخصية الدولة في المجتمع الدولي، حيث لم يعد لها ذراعا يمكن "ليه"، وهو ما يتزامن مع سد العديد من الثغرات في الملفات الأخرى، وأبرزها الاقتصاد، لتصبح الدولة في النهاية صاحبة القرار والتوجه، بعيدا عن محاولات الابتزاز التي عهدناها لسنوات سابقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة