برحيل فنان الكاريكاتير " جمعة فرحات" ، الذي رحل عن عالمنا قبل ايام، تكون مصر قد فقدت ليس واحداً من ابرز فنانينها أو رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير، لكنها فقدت حقبة كاملة من هذا الفن الراقي، الذي كان مدفعية الشعب المصري في السخرية.
أخطر ما يؤسف له الأن، هو تخلى غالبية الصحف والمجلات عن " فن الكاريكاتير"، وهو مؤشر خطير لمدى إيمان المجتمع بالفن، وليس الصحف وحدها أو الاعلام عموماً.
الميزة الحقيقية في هذا الفن، أنه دعوة للتأمل، دعوة للفكر ولتنشيط العقل. فن يستطيع أن يقول ما لا يستطع أن يكتبه كبار الكتاب في مقالاتهم السياسية.
سألت "جمعة" يوماً ، عن أنه كان هناك شىء اسمه «مكتشف»، وهذه هى رسالة فن الكاركاتير الذى يعد «فكراُ» وليس إفيهات أو «قفشات» هدفها الضحك لمجرد الضحك.. هل غياب «المكتشف» هو سبب فى تراجع فن الكاريكاتير الآن؟
فأجاب : ليس غياب المكتشف وحده بل رئيس التحرير «الفنان»، فبعض رؤساء التحرير الآن لا يميلون إلى الرسوم، ولكن يسعون الي الصور التي تشكل عنصراً مهماً فى التسويق والبيع، ونادراً ما نجد رئيس تحرير فى عصرنا الحالى يخصص صفحة أو صفحات لفن الكاريكاتير، قديماً كان رؤساء التحرير يشجعون الفن والفنانين.. ويكفى أن أقول لك إن مرتبى عام 1964 كان ثلاثة وعشرين جنيهاً. وفى رسم واحد أعطانى حسن فؤاد مبلغ أربعة عشر جنيها، لدرجة أننى كنت في نهاية الشهر احصل علي ما يقرب من مائة وعشرين جنيهاً.. تخيل مائة وعشرين جنيهاً يحصل عليها شاب عام 1964.. هكذا كان التقدير.. وعلى النقيض نرى اليوم رؤساء التحرير يخصصون مبالغ ضئيلة لرسامى الكاريكاتير.. أما مكافأة بسيطة أو بلا مقابل من الاساس مما يدفع الرسام إلى هجرة هذا الفن لكى يعيش! وهذا هو السر فى اتجاه كل الخريجين الآن إلى فنون «الجرافيك» والابتعاد عن الرسوم التقليدية.. وقلة قليلة فقط هى التى تتمسك بالرسم.. لأنهم «غاويين فقر»!
في عهود سابقة، كانت هناك منظومة للرقابة على الصحف.. وهو ما كان يشكل تقييداً على الفكر والفن معاً ..سألته: كيف كنتم تتعاملون مع هذه المنظومة الرقابية؟
فأجاب : لا أحد ينكر أنه كانت هناك «رقابة» ورقابة عنيفة، ولكن قد لا يصدقنى البعض أنه فى زمن الرقابة كنا نستطيع أن ننشر ما نريد! لأننا ببساطة كنا ندرك كيفية «الضحك» على الرقيب فهذا «الرقيب» موظف صغير وهو بالطبع لن يستطيع أن يصل إلى مستوى ثقافتنا إضافة إلى أن «الرقيب» كان يحضر يومياً ومعه «نشرة يومية» تضم كافة «المحظورات» المطلوب عدم التطرق إليها.وبالتالى ما دون ذلك يحق لنا أن نتناوله ونتحدث عنه مباشرة وهذا هو السبب فى «نضوج» الكاريكاتير الاجتماعى خلال هذه الحقبة الزمنية فتجد أن هذه الفترة كانت ثرية إلى أبعد الحدود بالكاريكاتير الاجتماعى والنقدى اللاذع وربما تطرقت إلى كاريكاتير «جنسى» لأن كل هذا لا يخضع لمجال الرقابة، وهناك قصة طريفة جداً وهى أنه بعد أحداث يناير عام 1977 قام الرئيس السادات بتغيير عدد كبير من رؤساء وتحرير ومجلس إدارات الصحف وكان من بينهم عبد الرحمن الشرقاوى رئيس مجلس إدارة مؤسسة «روزاليوسف» وصلاح حافظ رئيس التحرير. وجاء لنا رئيس رئيس تحرير جديد وهو عبد العزيز خميس، ففوجئت به يستدعينى إلى مكتبه ويقول لى: «الرقابة على الصحف اتلغت.. وعايزك بقى تلعلع» وتعد لنا رسوما غير مسبوقة وكنت آنذاك أقوم برسم غلاف «روزاليوسف» اسبوعياً وذهبت إلى مكتبى ووضعت أفكاراً ولم أستطع أن أنفذ أيا منها وفى صباح اليوم التالى عدت إلى مكتب «خميس» مرة أخرى فقال لى: «عملت أيه؟» فقلت له إننى لم أستطع أن أنفذ أية فكرة لأننى الآن لم أعد أتعامل مع «الرقيب» ولكننى أتعامل معك أنت! فالرقيب كنت أستطيع أن «أضحك عليه» أما أنت فلك ثقافتك ورؤيتك، وبالتالى ستكون أشد صرامة من الرقيب نفسه!
..هذا الكلام جزء من إرث كبير لفنان عاش وأبدع من أجل هذا الوطن ..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة