لاشك أن التحديات التي واجهت التنمية في الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي والتي تشكل تحديا في حد ذاتها، تتمثل في التحديات الفنية، قلة التمويل، التحديات السياسية خاصة فيما يتعلق بمستوى التنسيق والتعاون، التحديات الأمنية من نزاعات مسلحة وتطرف وإرهاب وأزمة اللاجئين والمهجرين والنازحين، هى تحديات فرضت على عملية صوغ السياسات التنموية العربية وتنفيذها، كما أنها تؤثر على مكتسبات هذه الدول التنموية كذلك، خاصة في ظل ما يطرحه البرنامج العالمي للتنمية المستدامة 2016 - 2030، والذي يضع 17 هدفا لتحقيق عالم أفضل في أفق سنة 2030 م و التي من بينها إنهاء الفقر والجوع بجميع صورهما وصون الكرامة والمساواة.
وعليه تعتبر السياسات التنموية من أهم الحلول للوصول إلى إحداث التنمية المنشودة، كما يتطلب نجاح السياسات التنموية توفر الكثير من الشروط التي يرى الكثير أنه تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكن المواطنين من المشاركة السياسية والمفاضلة بحرية واستقلالية بين الخيارات التنموية المتاحة وسبل بلوغها، مع ضرورة أن تأتي هذه السياسات والقوانين والتشريعات محققة للعدالة الاجتماعية ومنصفة للطبقات والفئات الضعيفة في المجتمع.
وإنطلاقا من تلك المبادئ أصدرت مصر قبل شهرين تقريبا كتاب (مبادئ الدبلوماسية الاقتصادية لجمهورية مصر العربية لتعزيز التعاون الدولي والتمويل الإنمائي)، من خلال وزراة التعاون الدولي، والذي يوثق تجربة مصر التنموية، فضلا عن إطلاق خريطة مطابقة التمويلات التنموية مع أهداف التنمية المستدامة، وهو ما يعزز الشفافية والحوكمة في متابعة ما تم تنفيذه من جهود وقياس أثر التعاون الدولي والتمويل الإنمائي، ووضع الأولويات بدقة، وفي هذا الصدد قالت الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي: إنه في ضوء السعي نحو إعادة البناء بشكل أفضل، فإن التعاون متعدد الأطراف ضروي لذلك، موضحة أن وزارة التعاون الدولي رسخت مبادئ الدبلوماسية الاقتصادية لجمهورية مصر العربية، لتحقيق التعاون الوثيق بين الأطراف ذات الصلة لدعم أجندة التنمية الوطنية وتحقيق التكامل بين الجهود المبذولة من شركاء التنمية.
ونوهت المشاط، بأن الدولة المصرية تمضي قدما نحو تحقيق أجندة التعافي الأخضر ليس فقط من خلال التفكير ولكن العمل على أرض الواقع، من خلال المشروعات الصديقة للبيئة، مضيفة أن مصر لديها شراكات وثيقة مع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية بشأن تنفيذ المشروعات وتطوير المبادرات الهادفة لتحقيق التحول الأخضر وتعزيز المدن الخضراء، بالإضافة إلى العديد من الأولويات الأخرى من بينها المساواة بين الجنسين، كما أن مصر حريصة على توفير التمويلات التنموية اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وعرض ما تم تحقيقه باستمرار، فهذه كلها عوامل تعكس بشكل واضح ما تم احرازه من تقدم على المستوى الوطني، مضيفة أن مطابقة التمويل الإنمائي مع أهداف التنمية المستدامة يساعد على تحديد الفجوات التمويلية في أهداف التنمية المستدامة ويوفر البيانات اللازمة لتمهيد الطريق نحو عملية اتخاذ قرار واضحة فيما يتعلق بالشراكات المستقبلية.
ولأن السياسات التنموية تعرف بأنها جزء من السياسة العامة للدولة التي تتعلق بالتنمية، وهى عبارة عن مجموعة من المبادئ والأهداف والمعايير والقيم التي تحكم نشاط الدولة اتجاه عمليات تنظيم التنمية المختلفة وإدارتها ورقابتها وتقييم نظمها وأنشطتها لتحقيق أفضل النتائج التنموية الممكنة، وتأتي هذه السياسات في إطار مجموعة التشريعات والقواعد التي تسنها الدولة للتحكم في حركة النشاط التنموي في المجتمع، في إطار جملة من المحددات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يمكن تحقيقها في شكل خطط وبرامج ومشروعات يتم تنفيذها في إطار تدابير وإجراءات متعددة، لذا نظمت مصر منتدى مصر للتعاون الدولي والتمويل الإنمائي (ICF Egypt 2021) خلال يومي أمس وأول أمس.
وكان الأبرز في افتتاح هذا المنتدى كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي التي كانت تحمل معاني كثيرة في صلب عملية التعاون الدولي لإحداث التنمية على أسس ومبادئ إنسانية، فقد أكد خلالها على أهمية تحقيق التكامل الأفريقي، من خلال تفعيل الآليات التنفيذية لاتفاقية التجارة الحرة الأفريقية، والتي كانت محورا هاما من محاور النقاش في هذا المنتدى، حيث تمثل تلك الاتفاقية دافعا قويا للمضي قدما نحو تعزيز الاندماج والتكامل بين دول القارة، والتي تمتلك فرصا هائلة لتضطلع بدور محوري في مستقبل الاقتصاد العالمي.
وأتوقف هنا لرصد حكمة الرئيس في قول: (إن البشرية في وقتنا الحالي، تمر باختبار هو الأصعب منذ زمن، حيث تواجه عدة تحديات تتمثل في تداعيات جائحة كورونا، والآثار السلبية للتغيرات المناخية، وهو ما يفرض علينا واقعا جديدا يتطلب أفكارا وصيغا أكثر ابتكارا في صنع القرار، ووعيا أكثر بالمخاطر المحتملة، ونهجا متوازنا يقوم على العمل المشترك لتحقيق التقدم والتنمية الاقتصادية المستدامة الخضراء لتلبية تطلعات شعوب العالم.
ونظرا لاهتمامه الخاص بقضية البيئة والتي يركز على مراعاتها دائما في حواره الدائم مع المسئولين التنفيذين المعنيين بإقامة المناطق السكنية للبسطاء والمدن الذكية، أشار الرئيس في تلك الكلمة إلى نقطة مهمة للغاية بقوله: لقد أضحى التعافي الأخضر ضرورة ملحة على رأس قائمة أولويات حكومات العالم في المرحلة الراهنة، وهنا يجب ألا نغفل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتباينة للدول الناشئة والنامية، والتي تأثرت بشدة من جراء جائحة كورونا، الأمر الذي قد يعيق من قدرتها على اللحاق بركب التعافي الأخضر، وهو ما يتطلب مساندة المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل الدولية لتحقيق الأهداف المنشودة لتلك الأجندة الطموحة.
أعجبني جدا منطق السيسي في ضرورة تكاتف القطاع الخاص مع الحكومة مؤكد : ومما لا شك فيه أن الحكومات بمفردها لن تستطيع تحقيق هذا التعافي، لذا يبرز الدور المحوري للقطاع الخاص، للمضي قدما نحو مستقبل مستدام، من خلال الآليات المبتكرة لتعبئة الموارد والتمويل المختلط، لتعزيز مشاركته في مختلف مجالات التنمية، جنبا إلى جنب مع التوظيف الجيد للتكنولوجيا والتحول الرقمي لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة للعالم أجمع، مشيرا إلى أن مصر من أوائل الدول التي وضعت خطة استراتيجية طويلة المدى لتحقيق التنمية المستدامة 2030، استنادا إلى الأولويات والمبادئ الوطنية، بهدف تحقيق التنمية المستدامة والشاملة، أخذا في الاعتبار، البعد البيئي، كمحور أساسي في كافة القطاعات التنموية للتغلب على آثار تغيرات المناخ والحفاظ على الموارد الطبيعية، والتحول نحو النمو الشامل والمستدام، بما يضمن حقوق الأجيال القادمة.
ولقد نجح الرئيس في توصيل رسالة مصر إلى العالم من خلال المجتمعين في هذا المنتدى، حيث خاطبهم قائلا: قطعت مصر عهدا على نفسها بالمضي قدما نحو تحقيق التنمية، جنبا إلى جنب مع مواجهة التحديات والمشكلات المتراكمة، ونجحنا خلال السنوات الأخيرة في دفع جهود التنمية في العديد من القطاعات من خلال مشروعات البنية التحتية الكبرى، وبرامج الحماية الاجتماعية، وزيادة الاستثمار في رأس المال البشري، واتخاذ خطوات فعالة نحو التحول للاقتصاد الأخضر، للارتقاء بحياة المواطن المصري وتحسين مستوى معيشته وتلبية تطلعاته نحو غد ومستقبل واعد، وهو ما أشادت به العديد من تقارير المؤسسات الدولية.
ومن هذا المنطلق فإن مصر ترحب بالتعاون الوثيق مع مؤسسات التمويل الدولية والأمم المتحدة ووكالاتها التابعة لتعزيز جهود التنمية، وتوفير الخبرات اللازمة، لأشقائنا في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، لنأخذ بأيدي بعضنا البعض نحو تحقيق أجندة التنمية المستدامة 2030، ودعم الرؤية الأفريقية القارية 2063، وإنجاز ما أقره العالم في اتفاق باريس للمناخ.
ولابد لي من توضيح نقطة غاية في الأهمية وهى جهود مصر في تنظيم هذا المنتدي تأتي لهدف تحقيق التنمية المستدامة في وقت اعتمد فيه مجلس إدارة البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، خلال اجتماعاته السنوية في أكتوبر الماضي، الاستراتيجية الجديدة للبنك 2021-2025، والتي ترتكز على ثلاثة محاور أساسية، هى دعم التحول إلى الاقتصاد الأخضر وتعزيز الاستدامة البيئية وخفض انبعاثات الكربون، من خلال زيادة الاستثمار في هذه المجالات، والمحور الثاني تعزيز تكافؤ الفرص بين الجنسين ووضعها كمعيار في المشروعات التي يقوم بتمويلها، وثالثًا تسريع وتيرة التحول الرقمي وذلك عبر إطلاق الأنشطة التي تساعد البلدان على التمكن من التحول الرقمي.
ويسعى البنك الأوروبي من خلال الاستراتيجية الجديدة للتحول لبنك صديق للبيئة من خلال زيادة حصة التمويل الأخضر إلى 50% من إجمالي تمويلاته على الأقل بحلول 2025، وذلك لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في مناطق عملياته بما يتراوح بين 25 – 40 مليون طن خلال فترة الاستراتيجية، إضافة إلى تعزيز التركيز على القطاع الخاص من خلال زيادة حصته في استثمارات البنك لأكثر من 75%، ويذكر أن مصر جاءت على رأس قائمة البنك كأكبر دولة عمليات على مستوى منطقة جنوب وشرق البحر المتوسط خلال عام 2020، حيث استثمر البنك مليار يورو لتمويل 21 مشروعًا، بنسبة 47% من إجمالي استثمارات البنك في المنطقة، بينما كانت مصر أكبر دولة عمليات في عامي 2018 و2019، وتسجل المحفظة الجارية للتعاون بين مصر والبنك نحو 1.3 مليار دولار، بينما تبلغ إجمالي استثمارات البنك منذ 2012 أكثر من 7.2 مليار يورو لتمويل 127 مشروعًا.
ومن أجل عالم جديد يسوده التعاون والتكاتف في التصدي للتحديات الصعبة التي تواجهه بالتنمية، فقد شهدت فعاليات منتدى مصر للتعاون الدولي والتمويل الإنمائي في نسخته الأولى إطلاق مبادرات نوعية دولية وإقليمية، بهدف الدفع بآليات التعاون الإقليمي لتعزيز العمل المشترك، ونقل الخبرات المصرية في التمويل الإنمائي، وكذلك تبادل الخبرات والمعارف والرؤى حول الجهود المبذولة لتحقيق التنمية المستدامة، وشهدت جلسات المنتدى على مدار اليومين الماضيين انعقاد عدد من ورش العمل، حول تفعيل آليات التعاون الإقليمي في ظل اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية، وعرض تجربة مصر في مطابقة التمويلات الإنمائية مع الأهداف الأممية للتنمية المستدامة، وأيضا دور المرأة ودعم رائدات الأعمال في مصر، والأمن الغذائي والتشغيل في إفريقيا في عصر الرقمنة، والابتكار وريادة الأعمال ودور الشباب في إفريقيا والشرق الأوسط، وتعزيز التعاون الثلاثي مع إفريقيا.
ومن خلال الورش التي تمت خلال فعاليات المنتدى تم إطلاق مبادرات نوعية وتقارير دولية لتعزيز التعاون المتعدد الأطراف ودعم العمل المشترك بين الأطراف ذات الصلة، بالاشتراك مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والمكتب الإقليمي للأمم المتحدة، وبرنامج الأغذية العالمي، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وغيرهم من كبرى المؤسسات الدولية المشاركة، فقد كانت هنالك مشاركة كبيرة من المؤسسات المالية الدولية، وذلك في حضور مسؤولون رفيعو المستوى، وممثلو مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، ومسؤولو القطاع الخاص والمجتمع المدني، كما شارك أيضا عدد من المؤسسات المالية الدولية من بينها، بنك الاستثمار الأوروبي ومجموعة البنك الدولي والوكالة اليابانية للتعاون الدولي، والبنك المركزي، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وشركة (آي فينانس) للاستثمارات الرقمية، وبنك مصر، وغيرها من الأطراف ذات الصلة.
ولعل أبرز ما جاءت به فعاليات هذا المنتدى، هو اعتماد التوجه الحديث في التنمية الذي يربط بين التنمية والديمقراطية، في علاقتها بمعايير الحوكمة الفاعلة بهدف إعادة إحياء دور الدولة، وذلك من خلال الإمكانات الداخلية للدول من إمكانات طبيعية وبشرية، للوصول إلى الاستخدام الأفضل للفرص التنموية، وهذا في ظل تبني نهج ديمقراطي يضمن مشاركة الأفراد في العملية التنموية أي أن يكون لمعنى (التنمية حرية) بمفومها الحقيقي الذي يمكن تطيبقه على أرض الواقع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة