يهتم أغلب المؤرخين بالجوانب السياسية والاقتصادية، ويشغفون بالحروب والهزائم والانتصارات، لكن قلة منهم من يلقى بالا للاجتماعيات أو الفنون، حتى فى العصر الحديث، وهو عصر محمد على وما بعده، لا نجد اهتماما كبيرا برصد الوضع الثقافى والفنى، مثلا لا نجد إشارات كثيرة إلى الفنانة الأشهر فى عهد عباس حلمى الأول "ساكنة بك".
ومع ذلك راح بعض الكتاب والمهتمون بالتاريخ يبحثون خلفها وممن اهتم كان الكاتب والروائى الراحل "مكاوى سعيد" فى كتابه "القاهرة وما فيها" حيث يقول عن "ساكنة بك":
تُعد "ساكنة" من أقدم المغنيات (العوالم) عهدًا، فهى أول مطربة ظهرت فى عهد الخديوى "عباس حلمى الأول" أحد حكام الأسرة العلوية التابعة اسميًا للدولة العثمانية، والذى حكم مصر بين عامى 1848 - 1854، وكان آنذاك فى مدينة "جدة" عندما توفى عمه والى مصر "إبراهيم باشا"، فاستدُعى إلى مصر ليتولى حكمها طبقًا لنظام الوراثة القديم، الذى يجعل ولاية الحكم للأرشد من نسل "محمد على"، وكان يميل للعزلة وسيئ الظن بالناس ومحبًا للقسوة، ومؤيدا للشيخ "محمد عبدالوهاب" بالجزيرة العربية، لدرجة أنه هرَّب أحد أبنائه أثناء وجوده فى السجون المصرية، بعد أسره فى المعركة التى خاضها إبراهيم باشا هناك، كما قام بإحياء شعيرة "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى مصر" ويعتبر بعض المؤرخين عهده عهد رجعية وارتداد، ففيه شلت وتعطلت حركة التقدم والنهضة التى بدأها جده "محمد على باشا"، وانتهى عهده باغتياله فى قصره ببنها- أما "ساكنة" فقد بزغ نجم سعدها فى سماء الغناء فى عهده، وزاد ضياءً فى عهد خليفته "سعيد باشا"، والى مصر، وكانت متصفة بحسن الصوت الذى ترسله إرسالاً بدون عناء، فيبلغ صداه الرائح والغادى، والبعيد والقريب، وقد أعجب بها الترك الذين كانوا مقيمين بمصر ولقّبها العامة بلقب "بك"، وكان لها مُزاح يُضحك الحزين، ويُفرح قلب العابد، لما انطوت عليه من تهذيب لسان، وخفة روح، وقوة البديهة، وسرعة الخاطر، وكان المُزاح فى ليالى الأفراح عادة مألوفة فى مصر، حتى فى عهد "عبده الحامولي"، الذى كان فيه يُحتم على صاحب العرس أن يستحضر مُضْحِكَيْن ينزلان إلى ميدان المضاحكة بين كل وصلة غناء وأخرى تخلصًا من الملل فى أثناء انتظار تصليح الآلات "دوزنتها وتجهيزها للعزف" وطلبا للروح.
واستمرت "ساكنة" على قمة الغناء فى عصرها إلى أن ظهر أفق مصر هلال "ألمظ"، فأخذ ينمو ويكبر حتى أضحى قمرًا منيرًا، ولما سمعت "ساكنة" صوتها الرخيم العذب أخذت فى البداية تتجاهلها، ولكنها لم تستطع صد تيار نجاحها القوي، ومنع إقبال الناس عليها؛ فرأت تفاديًا من المنافسة غير المنتجة أن تضمها إلى فرقتها، فتكون فيها تابعة لها وتحت إشرافها، بدون أن تُزرى بصيتها أو تُنزل من رتبتها، فمكثت معها "ألمظ" مدة تدرَّبت فيها على فن الغناء فحذقته، لكن "ساكنة" حقدت عليها لعظم وقع غنائها عند الناس، وهى ضمن فرقتها وأخذت تسيء الظن بها حتى طهقت "ألمظ" وتركتها، ثم ألَّفت "ألمظ" فرقة خاصة بها، فنافست فرقة "ساكنة" لمدة وجيزة، ثم قضت على صيتها قضاءً مبرمًا، ومن ذلك الحين بدأ نجم "ساكنة" بالأفول، وأخذ الدهر يقلب لها ظهر المجن إلى أن توفيت فى سن الشيخوخة فى عهد الخديوى إسماعيل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة