لا أخفي انحيازي الكامل للنجم "ياسر جلال" في كل أعماله التي تتسم بالجدية من ناحية ومن ناحية أخرى تتمتع بطابع إنساني يحمل جوانب الخير حتى ولو كانت مغلفة أحيانا بلون من "الأكشن والإثارة والتشويق"، وربما سبب انحيازي هذا يرجع إلى شيئين أساسيين، أولا: أنه هادئ الطبع (خارج اللوكيشن)، لايميل إلى العزلة بقدر ما يغلب عليه النبل في أخلاقه وصفاته، وثانيا : أنه لا يتحدث كثيرا عن أعماله إلا بعد الانتهاء منها وباقتضاب شديد، فلايسبب صخبا أو ضجيجا طالما أنه مازال داخل البلاتوه، ومن ثم يترك الرأي للجمهور بالحكم على نجاحه أو إخفاقه دون تعليق أو جدل حتى يفاجئنا بالدخول في شخصية جديدة من خلال عمل جديد يضاف إلى رصيده المتميز، والذي أصبح كبيرا للغاية لدى الجمهور المصري والعربي جراء تنويعاته المذهلة على مقام الدهشة الإبداعية في الأداء الجاد والاحترافي.
إنه رشدي أباظة الجديد.. هذا الاسم الذي أطلقه عليه جمهوره، منذ اللحظات الأولى له على الشاشة الكبيرة، فهو شاب لامع طويل القامة ووسيم، لديه حضور صارخ وصوت قوي وشخصية كبيرة فلاذية، ما أهله الآن ليصبح واحدا من الأرقام الصعبة في معادلة الدراما المصرية، وربما يرجع ذلك إلى أنه من الممثلين الذين يصل بهم الاهتمام من جانبهم بالتفاصيل الداخلية والخارجية للشخصية التي يلعبها على الشاشة إلى حد الهيستريا، لكنها ليست هيستريا تدفع إلى الجنون أو الانحراف عن المسار الصحيح، بل إنها هيستريا القلق والخوف من عدم وصول الإحساس الحقيقي للمشاهد، لذا تجده حريصا كممثل على الاهتمام بأدق تفاصيل الشخصية وينتابه قلق دائم داخل البلاتوه، لكنه يظل محافظا على توازنه تماما كفارس يتبارى في سباقات القدرة والتحمل، فيقوم بكبح جماح جواد إبداعه أولا بأول على جناح التحكم بكافة المكونات والعناصر والتفاصيل الفنية الفارقة في الأداء الاحترافي الجاد طبقا للقواعد الأكاديمية التي تعنى بالممثل.
وشيئا من هذا قد بدا لي في (ياسر جلال) من خلال تجسيده شخصية (جلال) مدرس التربية الرياضية في مسلسل (ضل راجل) الذي عرض في موسم رمضان 2021 على نحو مخالف لكل التوقعات بأداء يلفت إليه الأنظار من أول حلقة، وهو ما يثبت أنه ليس فنانا موهوبا فحسب، بل يمتلك كل مقومات النجومية التى تأخرت عنه طويلا، فضلا عن وصوله لمرحلة النضج الفنى - كما لاحظنا مع تطور الأحداث من حلقة لأخرى - حيث يزداد تألقه رغم المنغصات التي تعترض مسار حياته من خلال الدور الذى يقدمه، فقد امتلك (جلال) نوعا من القوة الهادئة التى تعينه فى تجسيد شخصية شعبية تميل إلى العصبية بالأساس، ومع ذلك كان يبدو طوال الوقت هادئ الطبع - كما هو في حياته الشخصية - رغم البركان الهادر الذى يغلى بداخله، ويدير معركته بسيطرة كاملة فى رحلة التحرى والبحث عن مغتصب ابنته، وكأنه يطبق مبدأ (ستانسلافسكى) فى تذكير الممثل بالصفة المعاكسة للدور، قائلا: (عندما تؤدى دور الشرير، ابحث عن الجانب الطيب فيه، وعندما تلعب دور العجوز ابحث عن الجانب الفتى فيه)، وهو ما بدا واضحا في أداء ياسر على مدار حلقات (ضل راجل).
أصبح ياسر جلال يختار بعناية فائقة ما يطل به على شاشة رمضان في كل عام ويضع شروطا دفينة في نفسه لا يعلنها على الملأ، بل يحس ويشعر بها الجمهور من خلال تجلياته الفنية المبدعة والرسائل التي يبثها عبر الأحداث على كثرتها، وربما هذا كان دافعا أساسيا لاختياره (ضل راجل)، ذلك العمل الذى قدمه بشكل خاص نتيجة عدة عوامل، أولها الورق وهو ما وجده فى سيناريو الكاتب أحمد عبدالفتاح، بالإضافة إلى وجود مخرج يتمتع بخبرة واسعة في البناء الدرامي للنص مثل أحمد صالح، وبالطبع شركة إنتاج سخية بحجم سينرجى، بجانب كوكبة من النجوم والزملاء، مثل (اللبنانية نور، ونيرمين الفقى، ومحمود عبدالمغنى، وإنعام سالوسة، وأحمد حلاوة، ومجدى فكرى) وغيرهم، فكل هذا بالنسبة له عناصر كانت جاذبة لخوض التجربة والخروج منها بنتائج طيبة.
وإضافة إلى كل ما سبق فإن شخصية (جلال) نفسها تبدو مختلفة عن الشخصيات التي لعبها من قبل، كما بدت لي ولغيري من المشاهدين في شكل علاقة الأب بابنته والتي تتمتع بقدر من الحنو والنعومة والشدة واللين في آن واحد، بحيث تعكس طبيعة الصراع القوى الذي تتمتع به الأحداث وعلاقة الآباء بالأبناء بشكل عام فى الأسرة المصرية، وهو مايراه (ياسر) جديرا بالتناول فى الدراما من أوجه مختلفة - بحسب قوله - لأن العلاقات الأسرية تبنى عليها المجتمعات، لكى نبنى مجتمعا ناجحا لابد تضبط العلاقات داخل الأسرة، ونعرض السلبيات ونحاول تقديمها للمشاهد فى قالب درامى لتكون محل نقاش واستفادة، فضلا عن أن المسلسل هو عمل درامي يجنح نحو التراجيديا الإنسانية ويلامس قضايا المجتمع ويبرز الشكل الحقيقي للحارة المصرية وما تتمتع به من أصالة وحب وحسن الجوار والعادات والتقاليد الطيبة والرجولة والشهامة والأصول، بعيدا عن الإسفاف والابتذال والألفاظ الجارحة، ومن ثم يقدم رسالة قوية جدا للمجتمع.
تمتعت حلقات (ضل راجل) بقدر كبير من الإثارة والتشويق في ظل أداء احترافي من جانب النجم (ياسر جلال) الذي بدا مثل فارس يمتطي جوادا عربيا أصيلا دخل في سباق من نوعية (القدرة والتحمل)، وفي هذا النوع من السباقات يصل الفائز إلى خط النهاية من خلال تحكمه في ثلاثة عناصر، أولها نبض الحصان، والثاني الزمن الذي يقام فيه السباق، والثالث وعورة الأرض التي يسير عليها الحصان، ومن هنا فقد اجتاز (ياسر) العناصر الثلاثة بامتياز، وفي قدرة فائقة استطاع التحكم في نفسه (الانفعال الذي يشبه العاصفة، والهدوء الذي يتسم بالحكمة في الشدائد والأزمات) وقد تم ذلك عبر التعبير بالإيحاء والدلات والإشارات عن الصبر على الظلم، وبالعيون في نظرته الحانية إلى المظلوم ليطمئنه على استرداد حقه المهدور، وحتى في قشعريرة الجسد التي صاحبتها غصة في القلب يحس بها المشاهد جراء الكادرات القليلة ذات الصبغة الإنسانية في لقاءاته مع زوجته (هدى/ نيرمين الفقي) قعيدة كرسي متحرك طوال الوقت.
اجتهد (ياسرجلال) كعادته في دراسة الشخصية على مستوى البعد المادي المتمثل في الشكل الخارجي والجسماني وشكل الوجه، والبعد الاجتماعي والذي يتعلق بوضعه في المجتمع غني أم فقير، وأين يسكن، وما هى مهنته، وأخيرا البعد النفسي ويخص أحلامه وطموحاته وطباعه، حتى تمكن من تقديم شخصية (جلال) بشكل مناسب ومختلف عن كل الأدوار التي قدمها من قبل، ولأن (ياسر) جزء من نسيج هذا المجتمع المصري العريق في أصالته، حيث الغالبية العظمى منه محافظون ومتدينون وعلى خلق، لم يلجأ إلى أن يجرح مشاعرهم، أو تقديم شىء غير أخلاقى أو مسف، بل استطاع مناقشة قضية (حمل ابنته سفاحا) من خلال رؤية عامة، بما يليق دون خدش للحياء أو جرح لعين المشاهد أو ألفاظ بذيئة، وهذا هو الفن الذي التزمه (جلال) ويتعمد دائما أن يترجمه بأدائه السلسل بنوع من الجمالية والإمتاع البصرى والذهنى والروحى، ومن فوق كل ذلك السمو فى المشاعر والأخلاق التي يستمدها من والده المسرحي الراحل العظيم (جلال توفيق).
وعلى الرغم من صعوبة الدور وتركيبته النفسية المعقدة، المضطربة فى بعض أطوارها بدافع الثأر والانتقام لشرف ابنته، إلا أن ياسر جلال استطاع بموهبته وحنكته وذكائه أن يجسد دور (جلال) مدرس التربية الرياضية بأداء يلفت إليه الأنظار من أول حلقة، ولما لا وهو واحد من مدرسة الممثلين الموهوبين بالفطرة، أولئك الذين لديهم قدرة فائقة فى السيطرة الكاملة على الحركة ونبرات الصوت والتعبير بالوجه والعين بدون مبالغة فى الأداء، وتلك قدرة لا تتوفر إلا لممثلين عظام أمثال عملاقة التمثيل المصرى (زكى رستم - محمود مرسى - محمود المليجى - أحمد زكى - نور الشريف) وغيرهم من نجوم كبار لايتكررون كثيرا، فهم من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أى أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، إنطلاقا من إدراكهم الواعى بإنه لمن الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال فى أى فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة والخبرة الطويلة.
لا يغرد مسلسل (ضل راجل) منفرداً خارج سرب (الأكشن) الحاضر بقوة في الموسم الدرامي المصري المنصرم على الشاشة الصغيرة، لكنه شكل نموذجا دراميا فريدا عام 2021، بتحقيق التوازن بين الـ (حركة) والقصة الإنسانية، والربط بينهما على أساس (الإثارة) من دون طغيان واحدة على أخرى، وقد استند (ياسر جلال) هنا إلى فضاء ملتصق بالواقع المحلي اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، من دون إغفال تبني كثير من وجهات النظر التي قد تعتبر (وطنية بغلاف اجتماعي غير تنظيري) بحيث تضغط على العصب العاري في المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى تدق جرس إنذار نحو المسكوت عنه في حياتنا، كاشفا عن مكنونات الخوف الذي يعتري نفوسنا أحيانا من القيل والقال حول قضايا الشرف والعرض والاغتصاب وكافة التبوهات التى تقيد حرياتنا في العيش بكرامة في هذه الحياة.
بإحساسه وخبرته فى مجال التمثيل وموهبته المتميزه، يدرك (ياسر جلال) كيف يصل إلي قلوب المشاهدين، وحتى إن كان المشهد الذى يقدمه لا يعتمد على الحوار فهو قادر بموهبته الفنية أن يصل إليك المشهد من خلال إحساسه، فتألق (ياسر) فى تجسيد دور (الأب المصدوم) جاء بالصورة التى ينبغي أن يكون عليها والتى ترسل إليك رسالة مفادها إنه (إنسان) عاش معايشة كاملة حياة الشخصية في كنف حارة شعيبة، وهذا إن دل على شيئ يدل على إنك أمام فنان يملك موهبه ومثقف ويعرف ماذا يقدم حتي تظهر بهذا الشكل الذى جعلك تعيش فى أجواء شعبية تتمتع بقدر من التوتر والحنو والطيبة والجدعنة من خلال تجسيده لشخصية (جلال) الذي تحول إلى سائق تاكسي في رحلة بحثه عن مغتصب ابنته.
وعلى الرغم من مرارة التجربة التي خاضها (ياسر جلال) في مسلسل (ضل راجل) إلا أنه يؤكد قائلا: أنا ضد العنف ضد المرأة قولا واحدا وعاداتنا وتقاليدنا التى تربينا عليها لا تسمح أننا نتعامل مع المرأة بشكل لا يليق لأنها الأم والأخت والزوجة والابنة هن من يصنعن المجتمعات، والكل يشهد بدورها الفعال فى بناء المجتمع فى جميع مجالات الحياة وتثبت قدراتها ومكانتها يوما بعد يوم، وفى رأيى الاهتمام بقضايا المرأة فى الفن لابد أن يكون من الأولويات فهى قضية حساسة ومن المهم أن نلقى عليها الضوء، يجب أن نهتم بتفاصيل الحياة داخل الأسرة وكيفية تعامل الآباء مع الأبناء ونتناوله بالنقد ونبحث عن السلبيات ونلقى عليها الضوء ونناقشه، فدور الأب هو الضل والحنان والأمان والحب الذى يضلل على بيته لو أنه يتعامل مع أهل بيته باحترام وحب، وبذلك ستكون الأسرة والمجتمع أسوياء .. تحية تقدير واحترام لنجم حافظ على اختياراته فأحبة الجمهور وتفاعل مع كل أعماله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة