احتجاجات حاشدة فى العديد من العواصم الغربية، تارة بسبب قيود كورونا، والتى تركت تداعيات اقتصادية كبيرة، وأخرى بسبب ممارسات عنصرية، وثالثة بسبب مخاوف ترتبط بالحريات، فى ظل ما يراه قطاع كبير من "دعاة" الحرية تراجعا كبيرا فى المساحة الممنوحة للنشطاء للتعبير عن رؤيتهم سواء بالاحتجاج فى الشوارع أو الاعتصام، بل وأحيانا عبر وسائل الإعلام، سواء التقليدية، كما هو الحال فى الصحف أو القنوات، أو الحديثة عبر مواقع التواصل الاجتماعى، مما يساهم بصورة كبيرة فى ضرورة مراجعة المفاهيم المطاطية التى صدرها الغرب، للمصطلحات التى طالما أطلقوها باعتبارها عنوانا للتحضر والإنسانية، بل وصارت معيارا للشرعية فى العديد من بقاع العالم.
ولعل الأحداث الأخيرة التى شهدتها العديد من بلدان الغرب، سواء فى الولايات المتحدة أو أوروبا، تفتح الباب أمام مراجعة حقيقية للمبادئ الغربية، فى ظل حالة من الازدواجية تجلت فى أبهى صورها فى التعامل مع المستجدات الدولية، جراء مواقف استثنائية اضطرت القوى الدولية الحاكمة للنظام العالمى إلى اتخاذها، فى الوقت الذى اتجهت فيه نحو انتقاد دولا أخرى بسبب نفس المواقف، مما تسبب فى حالة من الارتباك، ربما يبدو واضحا فى التصريحات التى يدلى بها المسئولين، الذين رسموا لأنفسهم صورة "حماة النشطاء.
فعلى سبيل المثال، تبدو تصريحات الرئيس الأمريكى جو بايدن، التى وصف فيها نظيره الروسى فلاديمير بوتين، بأنه "قاتل"، بمثابة تصعيد غير محسوب، ويعكس ارتباكا صريحا فى المواقف الأمريكية، تجاه العديد من القوى الدولية، خاصة وأن الوضع الداخلى فى الولايات المتحدة خرج عن طبيعته المسالمة، لأول مرة منذ عقود، وهو ما بدا واضحا فى الاحتجاجات التى شهدتها واشنطن وولايات أخرى، فى أعقاب خسارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بينما تبنت السلطات تجاهها مواقف حازمة لإجهاض أى محاولات من شأنها إثارة الفوضى، بينما أطلق مسئولو إدارة بايدن على الاحتجاجات الداعمة لسلفه لفظ "الإرهاب المحلى"، على عكس إشادتهم بـ"أيقونات" الحرية فى روسيا، والذين احتشدوا فى الميادين لدعم المعارض ألكسندر نافالنى.
وبين "أيقونات" الحرية و"الإرهاب" المحلى، نجد أن ثمة حالة من الازدواجية، ربما لم تشهدها من قبل أمريكا أو حلفائها فى أوروبا الغربية، وهو ما يرجع فى جزء كبير منه إلى حالة الاستقرار المجتمعى، فى الداخل، مما أضفى عليهم "شرعية" الانتقاد للأوضاع الداخلية فى العديد من الدول فى مختلف مناطق العالم، إما بصورة مباشرة، عبر مسئولى الإدارات الأمريكية أو حكومات الغرب الأوروبى، أو بصورة غير مباشرة عبر أذرعهم، والمتمثلة فيما يسمى بمنظمات حقوق الإنسان، والتى اعتادت على تسييس تقاريرها لخدمة أهداف تلك القوى.
حالة التسييس تبدو واضحة فى التقارير التى تخرج بها العديد من المنظمات الحقوقية، والتى صمتت تجاه النهج الذى تبنته العديد من الدول الغربية فى التعامل مع الاحتجاجات التى شهدتها فى الأشهر الماضية، بينما ركزت فقط على الدول الأخرى، التى ربما تبنت نفس النهج، رغم أن الهدف فى الحالتين يبدو واحد، وهو حفظ الأمن، ومنع أى محاولات من شأنها الانزلاق بالبلاد إلى حالة من الفوضى، ربما تؤتى نتائج كارثية.
أن المستجدات الأخيرة التى شهدتها الدول المدافعة عن الديمقراطية، خاصة مع تنامى الاحتجاجات جراء استمرار قيود كورونا، أو للتعبير عن الغضب المجتمعى من السياسات التى تتبناها الحكومات تجاه العديد من القضايا، على غرار الهجرة، تفتح الباب أمام تساؤلات عدة حول ماهية المعايير الجديدة التى تحكم مفاهيم الحرية والديمقراطية، التى طالما أطلقها الغرب للتنظير على الدول الأخرى، وابتزازهم من أجل الدوران فى فلكهم لتحقيق مصالحهم المباشرة، على حساب شعوبهم وأمنهم.
التغييرات التى يشهدها العالم فى الآونة الأخيرة تبدو جذرية، وبالتالى تبقى الحاجة إلى مفاهيم جديدة من شأنها، إضفاء الشرعية للقوى الحاكمة للنظام الدولى، فى ظل معطيات أبرزها نجاح النماذج التى طالما دأب الغرب على تشويهها عبر وصفها بـ"الديكتاتورية"، فى احتواء الأزمات "عابرة الحدود"، على غرار كورونا، ليس فقط فى الداخل، ولكن أيضا من خلال تقديم يد العون للدول الأخرى المنكوبة، لتقدم نفسها باعتبارها قوى قادرة على مزاحمة أمريكا وحلفائها الغربيين على قمة النظام الدولى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة