"الإرهاب المحلى".. هكذا وصف الرئيس جو بايدن الاحتجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة، منذ الإعلان عن خسارة منافسه الرئاسي في الانتخابات الأخيرة دونالد ترامب، والتي انتهت بمشهد "اقتحام الكونجرس"، تزامنا مع التصديق على النتائج في 6 يناير الماضى، في سابقة ربما لم تحدث من قبل في تاريخ الديمقراطية الأمريكية، لتكون بمثابة "بقعة" سوداء، في الثوب الناصع البياض، الذى طالما سعت الإدارات المتلاحقة، إلى الترويج له لعقود طويلة من الزمن، لتتوالى بعدها السقطات، وأبرزها التحرك نحو عزل الرئيس السابق، بعدما ترك منصبه، ليكون الإجراء، في حد ذاته، سابقة أخرى، رغم فشله، على اعتباره محاولة لمنعه من ممارسة حقوقه السياسية، ليكون ضربة أخرى، وربما لم تكون الأخيرة، لثوابت واشنطن.
وعلى الرغم من أن المشاهد السابقة، والتي تلخص الوضع الأمريكي في الأشهر الماضية، تقتصر على المستجدات في الداخل، إلا أن ثمة حالة من الارتباك، باتت تعانيه الدبلوماسية الأمريكية، في الأيام الأولى لإدارة بايدن، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن ثوابت واشنطن، وعلى رأسها الديمقراطية، والتي تعد حرية التعبير، وما تحمله في طياتها من الحق في التظاهر والاحتجاج، أحد دعائمها، هي في جوهرها أحد أهم الركائز، التي طالما انطلقت منها الإدارات المتعاقبة، لصياغة سياساتهم الخارجية، لتجد الإدارة الجديدة نفسها أمام مأزق حقيقى، تحتاج معالجته إلى إعادة صياغة المفاهيم التي طالما بشرت بها، لتضعها على قمة النظام الدولى.
فعندما تصف إدارة بايدن الاحتجاجات، وإن شابها العنف، بـ"الإرهاب"، ربما تجد نفسها أمام معضلة "الازدواجية"، عندما يهرع مسئوليها، لوصف المحتجين في دول أخرى، تضعهم واشنطن، في قائمة "الخصوم"، بـ"أيقونات" الحرية أو "نشطاء" الديمقراطية، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في تفريغ المبادئ الأمريكية من جوهرها، حيث ستتجلى حالة من التناقض الصارخ بين خطاب الداخل للتعامل مع أنصار المعارضة السياسية، من جانب، والدبلوماسية التي تتبناها أمريكا مع محيطها الدولى من جانب أخر.
ولعل الازدواجية ليست بـ"العلة" الجديدة التي تعانيها واشنطن، إلا أن أعراضها كانت متوارية خلف الاستقرار السياسى في الداخل، وما يمكننا تسميته بـ"هشاشة" المعارضة، في إطار صفقة رسمها "أباء" أمريكا الأولين، والتي قامت في الأساس على تداول شبه منتظم للسلطة بين الحزبين الرئيسيين (الجمهورى والديمقراطى)، تبادلا فيها مقاعد الرئاسة والكونجرس، بما يضمن قدر من التوازن السياسى، لا تسمح لفريق بالاستئثار المطلق بالسلطة، وهو الأمر الذى شهد اختلافا جذريا في السنوات الأخيرة، مع وصول ترامب، في ظل الحالة التي صنعها، وخرج من خلالها عن الإطار التقليدي للثوابت السياسية الأمريكية، ليجد دعما بعيدا عن القوالب الحزبية، عبر خروج قطاع كبير من الشارع غير المسيس لتأييده، بعيدا عن الحسابات التقليدية.
وهنا يصبح الموقف الأمريكي من الاحتجاجات في دول الخصوم، على غرار ما يحدث في روسيا لدعم المعارض ألكسندر نافالنى، على سبيل المثال، مثارا للجدل، حيث أضفى خطاب الداخل في التعامل مع الاحتجاجات المؤيدة لترامب، صفة "الإرهاب" للمحتجين الذين يسعون لإثارة الفوضى، لتلتصق بمفهوم "الديمقراطية" التقليدي الذى طالما روجت له واشنطن، وهنا يصبح الرهان على مواقف أمريكية قوية لدعم النشطاء، يبدو خاسرا، حيث سيصبح دعم واشنطن مقيدا بدرجة كبيرة في ظل مستجدات الداخل.
الأمر نفسه ينطبق على العديد من المواقف الأخرى، خاصة في الشرق الأوسط، فيما يتعلق بخطط بايدن للتقارب مع إيران، وموقفه من أذرعها الإرهابية، خاصة بعدما قررت الإدارة في رفع ميليشيا الحوثى من قائمة التنظيمات الإرهابية، برغم ما ترتكبه من انتهاكات صارخة، وتهديدات كبيرة لدول الجوار وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، عبر إطلاق طائراتها المسيرة على المدنيين، لتتجلى صورة أخرى للازدواجية، بين المفاهيم التي طالما استهلكتها الإدارات المتعاقبة لتنفيذ رؤيتها في العديد من مناطق العالم.
مفاهيم واشنطن تبدو في حاجة إلى إعادة صياغة في المرحلة المقبلة، خاصة ما يتعلق بالديمقراطية والإرهاب، في ظل اختلاطهما غير المسبوق في الداخل الأمريكي، عندما وصفت إدارة بايدن أحد مظاهر الديمقراطية بحسب المنظور التقليدي لأمريكا (الاحتجاجات) بـ"الإرهاب المحلى"، لتخلق ما يمكننا تسميته بـ"إرهاب الديمقراطية"، في انعكاس صريح لـ"شيخوخة" المبادئ الأمريكية، وتضع إدارة بايدن في مأزق صريح بين مواقفها من المستجدات في الداخل والخارج في المرحلة المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة