يرجع الفضل الأول فى بناء الأهرامات الساحرة والمعجزة إلى عبقرية الهندسة المصرية الفريدة وعظمة المهندسين المصريين العظام، والأهرامات المصرية كما نعرف هى سحر الآثار المصرية وقبلة الزوار والسائحين لمصر عبر العصور والأزمان، سحرت بعظمتها وجلالها الأخاذ الأبصار والعقول وهامت فى أسرارها القلوب، وبحث الجميع عن أسباب عظمتها وتفردها، وزادت عظمة أصحابها بسبب بنائها تقديسا وتكريما وتعظيما لهم، ولا يمكن لنا أن ننسى جهد وإبداع وعبقرية المهندسين المصريين القدماء العباقرة، أمثال (إيمحتب وحم إيونو وعنخ حاف)، أولئك البناة العظام الذين شيّدوا هذه الأهرامات الخالدة على وجه الزمان.
ولأن المصريين الحاليين هم أحفاد هؤلاء الفراعنة العظماء، فقد ورثوا عبر آلالاف السنين جينات فن الهندسة المعمارية وأضافوا عليها دائما فنون العصر الذي تشيد فيه تلك المباني، في صورة ملاحم تؤكد عبقرية المكان والزمان في هذا البلد الحضاري العريق، ولعل العاصمة الإدارية الجديدة خير شاهد على امتداد عبقرية المهندس المصري من خلال ملحمة جديدة شهد بعض ملامحها الرئيس عبد الفتاح السيسي في زيارته الأخيرة لتفقد آخر مراحل حلمه الكبير الذي حلم به وأطلقة في مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري يوم 13 مارس 2015، في شكل مشروع يقام على مساحة إجمالية 170 ألف فدان تقريبا.
وأذكر أنه في إحدى التصريحات للرئيس السيسي أثناء حفل تدشين مشاريع بالعاصمة الإدارية الجديدة قال في تصريحات للرد على منتقدي العاصمة الإدارية الجديدة قال: "إن الأولويات كل حاجة .. عندنا أولويات اللي عايز يعرف معندناش حاجة نأجلها، البلد بتنبض بالحياة ولازم أولوياتنا تنبض بالحياة"، وأضاف: "تحترم نفسها وتُحترم من الدنيا كلها، احترام الناس ليك لا يتحقق بالعافية ولكن يتحقق بالتخطيط"، وتابع: "عايز أقولكم هو إحنا مش من حقنا نحلم ولا إيه؟، هو عيب علينا يبقى عندنا 13 مدينة كده ولا إيه، خسارة فينا ولا إيه؟"، وأكد: "بنعمل أمر التاريخ هيتوقف قدامه كتير وهيشوف إننا بفضل الله سبحانه وتعالى إننا بنعمل استدامة النمو ليتناسب مع حجم نمو مصر".
في العاصمة الإدارية الجديدة تتجسد عبقرية المهندس المصري عبر أطرافها المترامية، بمجموعة من المبانى الأيقونية المتميزة بتصاميمها المبهرة التى تعكس براعة المصريين فى إنجاز المشروعات الضخمة بلمسات جذابة وعصرية تتماشى مع المعايير العالمية، بما يجعلها منافسا قويا لمثيلاتها من المدن الدولية الكبرى، كما تجلى لنا ذلك من خلال مشاهد الفيديو والصور التى صاحبت زيارة الرئيس، والتي تعكس الإبداع فى هذا الإنجاز المعمارى العظيم، حيث تتزين مبانى المدينة بنظم إضاءة ليلية مبهرة، إضافة إلى تمتعها بتصاميم جذابة ومتناسقة، وتحيط بها المساحات الخضراء من كل مكان.
وقد لفت نظري في خلال تلك الزيارة المهمة (متحف عواصم مصر) الذى يروى تاريخ العواصم المصرية عبر العصور المختلفة، أحد أبرز المبانى المهمة فى العاصمة الإدارية الجديدة، والذى يتكون من قاعة رئيسية يُعرض فيها آثار لعدد من عواصم مصر القديمة والحديثة يبلغ عددها 9 عواصم هى (منف، طيبة، تل العمارنة، الإسكندرية، الفسطاط، القاهرة الفاطمية، مصر الحديثة، القاهرة الخديوية)، هذا بالإضافة إلى عرض مجموعة من المقتنيات المختلفة التى تمثل أنماط الحياة فى كل حقبة تاريخية خاصة بكل عاصمة على حدة مثل أدوات الزينة، وأدوات الحرب والقتال، ونظام الحكم والمكاتبات المختلفة، هذه صفحة جديدة من توثيق تاريخ مصر عبر العصور والأزمنة.
أما القسم الثانى من المتحف فهو عبارة عن جناح يمثل العالم الآخر عند المصرى القديم، ويتكون هذا الجزء من مقبرة (توتو) التى تم اكتشافها عام 2018 بمحافظة سوهاج، بالإضافة إلى قاعة للمومياوات والتوابيت وفتارين تحتوى على الأوانى الكانوبية ومجموعة من الأبواب الوهمية ورؤوس بديلة تحاكى الطقوس الدينية فى مصر القديمة، وأبرز ما أبهرنا في العرض المتحفى، هو استخدام التكنولوجيا الحديثة حيث تم تزويد قاعات العرض بشاشات تعرض فيلم بانورامى تفاعلى لعرض التاريخ صوتا وصورة، وعرض توضيحى لشكل كل عاصمة من العواصم المصرية القديمة، وطبيعة العمارة السكينة والمبانى الدينية بها وأشهر معالمها، لتضيف لمسة إبداعية جديدة، تجذب الزائرين.
ويبدو في قلب المشهد الحضاري بالعاصمة الإدارية أيضا أن هنالك اهتمام خاص من جانب الرئيس والحكومة بدور العبادة، على مستوى (المسجد والكنيسة) فقد شهدنا من قبل مسجد (الفتاح العليم)، والذي يعد من أكبر المساجد حول العالم حيث تصل المساحة الإجمالية للمسجد حوالى 106 فدان ويتسع لـ17 ألف مصلى، ويتسع صحن المسجد لعدد (6300 مصلى)، وله 5 مداخل رئيسية، منهما مدخلان للسيدات، وساحة الصلاة الخارجية التى تتسع لعدد ( 3400 ) مصلى، ودور الميزانين مصلى سيدات وهو مزود بحاجب رؤية من الخشب بالطراز الإسلامى بطول حوالى 95 متر مسطح .
أما البدروم، فيضم مدخلين كل مدخل مزود بسلالم من الجرانيت، إضافة إلى سلالم متحركة لخدمة رواد المسجد ويتكون من مصلى للرجال يتسع لـ (1200 مصلى)، ومصلى سيدات يتسع لـ (300 مصلى)، وعدد (4) ميضأة للرجال والنساء بإجمالى عدد 94 دورة مياه وعدد 2 دار تحفيظ للقرآن للرجال والسيدات، كما يتضمن مكتبة وعدد 5 مكاتب إدارية وغرفة للمولد و2 غرفة للتحكم فى الكهرباء ومخازن وقاعة اجتماعات تسع 40 فردا.
وتأتى القبة الرئيسية لصحن المسجد بقطر 32 م وارتفاع 28م من سقف المسجد، و42 م من سطح الأرض - يحيط بصحن المسجد عدد 4 قباب ثانوية بقطر 12.5 م وارتفاع 10 م - كما يوجد عدد 4 قباب ثانوية فوق المداخل، أما الساحة الخارجية للمسجد فتضم عدد 4 مآذن بارتفاع حوالى 95 م ويصل طولها بعد إضافة الهلال إلى 102م للمأذنة.
وفى نفس إطار الاهتمام من جانب الرئيس والحكومة المصرية بدور العبادة أيضا، تأتى كاتدرائية (ميلاد المسيح)، التى تعد الأكبر حجما وسعة بمنطقة الشرق الأوسط، حيث تقع على مساحة 15 فدانا، أى ما يعادل 63 ألف متر مربع، وتتسع لأكثر من 8 آلاف شخص، وتحتوى الكاتدرائية على ساحة رئيسة، إضافة إلى مبنى المقر البابوى وصالة استقبال وقاعة اجتماعات ومكاتب إدارية، كما يسع مبنى الكاتدرائية 8200 فرد، وهو عبارة عن "بدروم"، وصحن ومنارة بارتفاع 60 مترا، وأجمل ما تحتويه الكاتدرائية هو قاعة متحف لتاريخ الكنيسة القبطية، والذي يحكي قصصا إيمانية ونورانية ولدت وتجلت على أرض مصر منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.
وتم تصميم منارتين ملحقتين بمبنى الكاتدرائية، حيث تم تصميم المنارة بتشكيل من عناصر من العمارة القبطية، كما تمت مراعاة احتوائها على عدد من الأجراس أعلى المنارة، أما الهيكل الرئيسى للكنيسة فهو عبارة عن صحن رئيسى مغطى بقبوين متعامدين قطر كل منهما 40 مترا، يشكلان صليبا، تقابلهما فى وسط الصحن قبة الكاتدرائية بقطر 40 مترا، ترتفع 39 مترا عن سطح الأرض محملة على أربعة عقود رئيسية، وتتضمن أنصاف قباب فى الجهات الشمالية والقبلية والغربية، وعلى الجانبين يوجد ممران جانبيان يتغطى كل منهما بقبوات متقاطعة، قطر كل منها 6 أمتار، وتمت مراعاة أن يكون أعلى الهيكل الرئيسى قبة بقطر 15 مترا، وقباب الهياكل الجانبية بقطر 10 أمتار، كما يوجد بها من الداخل أيقونات مرسومة على الحوائط تعبر عن ميلاد السيد المسيح، وبشارة القديسة العذراء مريم، وأيقونات مستحواه من سفر الرؤيا.
لقد آثرت التركيز على هذين المبنيين الرمزيين واللذين يعكسان روح مصر المحبة للسلام والأديان، وانتقالًا لجانب آخر من زيارة الرئيس فسوف نلحظ تجلي فن العمارة المصرية الحديثة في مبنى مجلس النواب، الذى يعد تحفة معمارية دشنت بأيدى مصرية وفق المعايير العالمية، وهو مشروع ضخم تم إنجازه فى وقت قياسى لم يتجاوز العام ونصف العام، ويتزين المبنى من الخارج بنظام إضاءة ليلية مبهرة، وتعكس المشاهد واالصور الملتقطة للمبنى ومحيطة من جوانب مختلفة بينها صور جوية مدى البراعة المعمارية التى دشن بها مبنى البرلمان الجديد، والتى راعت أقصى درجات البراعة والإتقان والأمان وقد صمم كل ذلك بسواعد مصرية تؤكد أنهم خير خلف لأسلافهم من الفراعنة الذين بنو حضارة ماتزال تذهل البشرية.
وليس (المسجد والكنيسة ومبنى البرلمان) وحدهم يشكلون الإعجاز المصري في العمارة، بل إن هناك أحياء تتمتع بالتنوع والبراعة في التصميم الذي يتخذ من هذا العصر طبيعته وملامحمه لتناطح العمارة المصرية نظيراتها في كل دول العالم بما تتوفر فيها من مواصفات قياسية في معدلات المتانة والأمان، وقد سعدت ومعي كثير من المصريين بقرب الانتهاء من الإنشاءات الموجودة في العاصمة الإدارية حيث وصل معدل الإنجاز بالحى السكنى الثالث بالعاصمة الإدارية الجديدة 90%، وهو المشروع الذى يُقام على مساحة 1000 فدان بإجمالى 8 مجاورات.
وبلغ معدل الإنجاز فى المجاورة الرابعة 75% (فيلات وتاون هاوس)، فيما بلغت نسبة الإنجاز الفعلى فى العمارات السكنية بالمجاورة السابعة 70% بواقع 107 عمارات سكنية، 3160 وحدة سكنية، كما تم الانتهاء من العمارات السكنية بالمجاورة الثامنة بعدد 136 عمارة سكنية، 3896 وحدة سكنية، وجار الاستلام الابتدائى لـ 55 عمارة، كما يجرى العمل على الانتهاء من أعمال تنسيق الموقع بالمجاورة الثامنة، بالإضافة إلى أن نسبة الإنجاز فى عمارات الإسكان المختلط بالحى السكنى الثالث بلغت 65%، بعدد 64 عمارة سكنية استخدام مختلط، 2560 وحدة سكنية .. هذه بعض ملامح الإنجاز المصري السريع.
مشروع العاصمة الإدارية، كما هو مخطط له يستهدف أن "تكون مدينة خضراء يبلغ فيها نصيب الفرد من المسطحات الخضراء والمفتوحة 15 م2/ فرد"، وأن تكون مدينة مستدامة تُستخدم بها محددات الاستدامة فى الطاقة وتدوير المخلفات، ويتم تغطية الجزء الأعظم من أسطح مبانيها بوحدات الطاقة الشمسية، وأن تكون مدينة للمشاة ويراعى بها تواصل أحياء المدينة من خلال شبكة ممرات للمشاة والدراجات حيث سيتم تخصيص 40 % من شبكة الطرق بها للمشاة والدراجات"، وأن تكون مدينة للسكن والحياة بمعنى أن تتضمن 35 % إسكان عالى الكثافة، و50 % إسكان متوسط الكثافة، و15 % إسكان منخفض الكثافة، حيث إن 30 % من مساحة المدينة مخصص للسكن والحياة، وأن تكون مدينة ذكية تُقدم جميع خدماتها إلكترونيا، وأن تكون مدينة للأعمال وتُعد مركزاً للمال والأعمال يخدم إقليم القاهرة الكبرى، وإقليم قناة السويس، والأههم في كل ذلك أنه من المتوقع أن ينمو عدد السكان بها من 18 مليون نسمة إلى 40 مليون نسمة بحلول عام 2050، وهو المشروع الذى من شأنه إدخال مفهوم جديد لطبيعة الحياة السكنية بمصر.
ومن هنا تبقى العاصمة الإدارية ملحمة مصرية ستظل راسخة في عقل ووجدان الأجيال الحالية والقادمة كشاهد على عظمة العمارة المصرية، وتحكي لنا جزء من أساطير الهندسة المصرية التي علمت البشرية فن العمارة الحديثة التي تتمتع بمواصفات الجودة والمتانة والأمان على غرار الأهرامات والمعابد التي ماتزال تزهو ألوانها وزخرافها المزينة جدرانها بذات الزخم والبريق الذي صنعته الأنامل المصرية قبل آلالاف السنين، وماتزال الجينات ذاتها تسري في دماء المصريين الحاليين، الذين جسدو حلم العمارة الحديثة على نهج أجداداهم العظام .. فتحية تقدير واحترام للعقول المستنيرة والسواعد المصرية التي جسدت ملحمة العاصة الإدراية الجديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة