حالة من التفكك باتت تضرب أوروبا، تجلت في العديد من المشاهد، ربما أبرزها الأزمات الأخيرة، سواء فيما يتعلق بأزمة المهاجرين، على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، أو فيما يتعلق بالأزمة الروسية الأوكرانية، في ضوء تراجع الدعم الأمريكي من جانب، وضعف الاتحاد الأوروبى، على خلفية الخروج البريطاني، بالإضافة إلى الصعود الكبير، لتيارات اليمين المتطرف، والذى لا يحمل في أجندته ولاءً قاريا، على حساب الهوية، والتي تقوم في الأساس على احترام الخصوصية الوطنية لكل دولة، من جانب أخر، لتصبح أزمات القارة العجوز نتاجا لسياسات تبنتها حكوماتها لعقود طويلة من الزمن، أبرزها التبعية للحليف الأقوى، وهو الولايات المتحدة، بل والعمل على تدعيم قيادته الدولية، عبر نشر مبادئه، والعمل على تعميمها عالميا، عبر الحوافز، سواء سياسيا أو اقتصاديا، التي طالما قدمتها للدول التي دارت في فلك واشنطن ومن ورائها المعسكر الغربي تارة، أو من خلال استخدام "عصا" العقوبات، في وجه المارقين تارات أخرى.
ولعل أزمة المهاجرين، على سبيل المثال، تجسد بوضوح المعضلة الأوروبية الراهنة، في ظل معطيات عدة، من بينها، على سبيل المثال، سياسة الحدود المفتوحة بين دول القارة، أو استدعاء البعد الإنسانى، وهو ما ساهم في أزمة عميقة عانتها دول القارة، خاصة في الجانب الغربى منها، نظرا لغياب عامل هام وهو تنظيم عملية الهجرة واللجوء، حيث بات المهاجرون يستقطبون فرص العمل أكثر من المواطنين، وهو ما أدى إلى تفاقم نسبة البطالة، ناهيك عن مخاوف أمنية كبيرة، إثر تسلل عناصر خطرة إلى داخل الأراضى الأوروبية، وهو ما ترجمته العمليات الإرهابية التي ضربت بعض الدول في السنوات الماضية.
ولو نظرنا إلى الأسباب التي دفعت السلطات الأوروبية نحو هذا النهج المفتوح، ربما نجد أنها لا تقتصر على الأبعاد المذكورة سلفا فقط، حيث حملت في طياتها استجابة صريحة لدعوات أطلقتها أمريكا، ومن ورائها النشطاء الحقوقيين، والذين نجحوا إلى حد كبير في ابتزاز حكومات بلدانهم، إلى الحد الذى وصل إلى توجيه بوصلاتهم السياسية، وهو ما أدى إلى أزمة مزدوجة، تحمل في بعد منها التهديدات التي تسببت فيها تلك السياسات، بينما يقوم البعد الأخر على حالة الغضب الشعبي، تجاه الحكومات القائمة، وهو ما ترجمته نتائج الانتخابات في عدة دول أوروبية، حيث اتجه الشارع نحو تيارات أخرى بديلة، يحمل شعارات مناهضة، لمبادئ الليبرالية التي طالما تشدق بها القادة لسنوات طويلة.
وتعد ألمانيا أحد أهم النماذج البارزة في هذا الإطار، وهو ما يبدو في نتائج الانتخابات الأخيرة، والتي أطاحت بحزب المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، والتوجه يسارا، رغم ما تملكه من تاريخ سياسي كبير، مكثت به على قمة السلطة في بلادها لأكثر من 15 عاما، حيث استجابت في العديد من المراحل لمعطيات الصفقة الضمنية مع واشنطن، والتي تجلت في أبهى صورها خلال حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لتعتلى برلين عرش القارة العجوز، مقابل "التبشير" بما تفرضه أمريكا، وتكون أحد أذرعها لممارسة الضغوط على "المارقين"، بينما استجابت في أحيان أخرى، للنشطاء، على حساب القاعدة العريضة من الشارع، تحت مظلة حقوق الإنسان، مما دفع إلى تأجج الغضب الشعبي، ناهيك عن تراجع المكانة الدولية، في مرحلة ما بعد أوباما، إثر تدهور العلاقة مع واشنطن خلال حقبة خليفته دونالد ترامب، في حين لم ينجح، أو ربما لم يرغب، الرئيس الحالي جو بايدن، في القيام بدور المنقذ لها ولحزبها، متوجها نحو توطيد العلاقة مع بريطانيا، لتستعيد دورها القيادى في القارة، رغم ما يمثله هذا التوجه من تهديد صريح للاتحاد الأوروبى.
تجربة ميركل، ربما تكون ثرية سياسيا، فلا يمكن أن ينكر أحدا دورها القيادى، ونجاحاتها المبهرة، ولكن يبقى مشهد النهاية، في ذاته، درسا مهما، سواء لخليفة ميركل الحالي أولاف شولتس، والذى يبقى استمراره مرهونا بقدرته على احتواء أزمات الداخل، أو للحكومات الأوروبية الأخرى، حيث لم يعد الاعتماد المطلق على حليف واحد، مثمر، في ظل معطيات العالم الجديد، والتي تقوم في الأساس على التعددية، مع صعود قوى جديدة، أثبتت جدارتها، في تقديم يد العون للعالم في أزماته ذات الطبيعة المختلفة، وعلى رأسها الصين، بالإضافة إلى روسيا التي أثبتت الأزمات الأخيرة، في أوروبا، أن ثمة حاجة ملحة للحوار معها لتجاوز التحديات القارية، بعيدا عن الموقف الدولية الأخرى، والاعتبارات المسيسة التي طالما تشدق بها "المعسكر الغربي"، لعقود طويلة.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة أصبحت ملحة لدى الغرب الأوروبي، بعيدا عن حالات "التنظير السياسى"، الذى بات غير مجديا، في مواجهة شعوبهم، والتي شهدت تمردا صريحا على تلك "التابوهات" التي صنعوها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بينما لم تعد صالحة للتطبيق بنفس الآلية في الوقت الراهن، وهو ما ترجمته العديد من الاحتجاجات، التي شهدت بعضها، ما يمكننا تسميته بـ"الحنين" للديكتاتورية، في ظل الشعور العام، بأن الحكومات ينبغي أن تكون أكثر حسما وحزما في مواجهة أزمات الداخل لحماية حقوقهم، سواء في الأمن أو العمل أو الحياة الكريمة، بعيدا عن تنصيب أنفسهم في دور "المدافع" عن حقوق الإنسان في العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة