قدمت دار آفاق، فى الأعوام السابقة، مشروعًا لترجمة بعض الأعمال الفكرية لتولستوى عن الروسية مباشرة مع المترجم يوسف نبيل، وقد أسفر المشروع عن ترجمة ثلاث كتب فكرية له، بالإضافة إلى يوميات تولستوى كاملة فى ستة أجزاء كاملة، واليوم تستعد الدار لتقديم مشروع ترجمة جديد فى الأدب الروسي، بعدما أعلنت، على صفحتها الخاصة على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك، عن إطلاق سلسلة: "مختارات من الأدب الروسي".
وعن المشروع يقول يوسف نبيل، تكونت فكرة تلك السلسلة إثر أسئلة واجهتنى كقارئ قبل أن أكون مترجمًا، تعودت على قراءة كل ما أستطيع الوصول إليه من مترجمات روسية، بالإضافة إلى قراءاتى لأعمال عن الروسية مباشرة. عبر متابعة حركة الترجمة عن الروسية، والتى بدأت تزدهر نسبيًا فى الفترة الأخيرة، لاحظت وجود مشكلة واضحة لى كقارئ، ورويدًا رويدًا اكتشفت أن المشكلة مرتبطة بعوامل تُميِّز الأدب الروسى عن غيره.
وتابع يوسف نبيل، ترتبط كل الآداب بشكل عام بجوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتزداد حدة ذلك الارتباط أو تقل من عمل لعمل. من شأن الاطلاع على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى يعيش فيها الكاتب أن تُقدِّم للقاريء فهمًا أكبر للعمل الذى يقرأه. لكن كما ذكرت، تختلف شدة هذه الحاجة من عمل لعمل، ومن بلد لآخرى. لا تتطلب منا مثلا قراءة أعمال كامو وسارتر وكافكا الدرجة ذاتها من الإلمام بهذه العوامل مثلما هو الأمر مع بعض الأعمال الأخرى. من هنا تحديدًا أدركت الصعوبة التى واجهتها كقارئ – والتى أظن أن غيرى واجهها كذلك – عند قراءة بعض الأعمال الروسية.
تتلخص المشكلة تحديدًا فى حجم الارتباط الوثيق بين أغلب الأعمال الأدبية الروسية وبين السياق الاجتماعى والاقتصادى والسياسي. الحال كذلك حتى فى أعظم الأعمال إنسانية وأكثرها إمعانًا فى الفلسفة والجوانب السيكولوجية كأعمال دوستويفسكى العملاقة مثلا وغيرها. فلنأخذ رواية الشياطين مثالا: صدرت الرواية بين عامى 1871 – 1872. من يقرأها دون خلفية سابقة عن واقع التاريخ الروسى فى تلك الفترة سيجد أن تصوير دوستويفسكى لثوريى تلك المرحلة شديد الغرابة وغير مفهوم. بل إن غير المطلع على رواية: "ما العمل؟" لتشيرنيشيفسكى والتى صدرت فى عام 1863 ربما لن يفهم أن مجمل الإنتاج الروسى لدوستويفسكى وتولستوى وبعض الكتاب الآخرين فى تلك المرحلة كان بمثابة رد على ما طرحه ذلك العمل تحديدًا الذى صوَّر طريقًا ماديًا محددًا للخلاص، وبالتالى حاولت بعض الأسماء أن تبين ورطة هذا المشروع الفكري، وترسم طريقًا آخر.
وأضاف يوسف نبيل، أن المشكلة التى تواجه بعض القراء هى قراءة أعمال روسية بشكل اعتباطى وغير مرتب زمنيًا، وبالتالى تظهر أسئلة عن سياقات غريبة. عندما نقرأ مثلا بعض الأعمال التى تدور رحاها إبان الحرب الأهلية الروسية بعد اندلاع الثورة البلشفية، لا يمكن للكثيرين فهم سبب هذا العنف المفرط، أو حتى فهم نفسية الفلاح الروسى وموقفه من الثورة. عندما نقرأ كذلك الأعمال الروسية فى نهاية القرن العشرين، بل وحتى الأعمال الروسية التى تُنشر الآن، لا يمكننا أن نفهم سبب رجوع الأدباء الروس إلى موضوعات الماضى وتناول الحقبة السوفيتية بعد مرور كل هذه الأعوام الطويلة على تفكك هذا الاتحاد. أظن أن كل هذا يعود إلى إهمال الارتباط الروسى الوثيق بين الأدب والواقع الاجتماعى والاقتصادى والسياسي، لأسباب وعوامل عديدة وصل الأدب الروسى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر إلى ذروة تقدمه، وتمحورت أغلب الأعمال العظيمة فى تلك الفترة حول موضوعات معينة، وحاولت الإجابة عن أسئلة تكررت عناوينها فى أعمال عديدة؛ أقصد هنا أسئلة من قبيل: من المذنب؟ ما العمل؟ ماذا علينا أن نفعل؟ من شأن من نال أقل قدر من معرفة التاريخ الروسى أن يعرف أن هذه المنطقة بشعوبها مرت بظروف قاسية إلى درجة مروعة، وبالتالى أثَّر ذلك على الأدب وسيرورته بشكل فوري، بالإضافة إلى التأثيرات السياسية المباشرة التى شكَّلت الأدب الروسى من قرارات رقابية وموجات هجرة عديدة للكتاب.
وقال يوسف نبيل، جعلنى كل ذلك أفكر فى تقديم الأدب الروسى بصورة جديدة، تعتمد على طرح الأعمال الروسية الهامة والفارقة بترتيبها الزمني، مع الوضع فى الاعتبار عدة عوامل، منها: أن تعبِّر هذه الأعمال بشكل واضح عن قضايا ذات أهمية إنسانية واجتماعية واضحة، وأن يكون مؤلفو هذه الأعمال من الأسماء الروسية المهمة فى تاريخ الأدب الروسي، والتى لم تأخذ حقها من النشر والانتشار فى عالمنا العربي، وألا تكون هذه الأعمال قد تُرجمت من قبل، وبدأت بعدها فى تقسيم الأدب الروسى إلى مراحل. بالطبع ثمة تقسيمات معروفة وواضحة، وثمة بعض الاختلافات بين هذه التقسيمات، لأننا شئنا أم أبينا نتناول مثل هذا الأمر بطريقة تشوبها عوامل ذاتية واعتباطية، حتى ولو بدرجة طفيفة. بعد تقسيمه إلى مراحل بدأت رحلة البحث عن أهم العناوين التى يمكنها أن تعبر عن أدب تلك الفترة، وتكون مشحونة بالأسئلة الكبرى التى شغلت بال الأدباء فى هذه الفترة، مع مراعاة العوامل السالف ذكرها.
وأضاف "نبيل" أتصور أن قراءة الأدب الروسى بهذه الطريقة سوف تقدم لنا فوائد كثيرة منها، فهم تطور الأفكار والتقنيات الأدبية المختلفة بشكل تدريجي، الاطلاع على أسماء شديدة الأهمية فى عالم الأدب الروسى رغم عدما انتشار أعمالها باللغة العربية، بل إن بعضهم لم يُترجم له شيء من الأساس، مساعدة القارئ فى فهم السياق الاجتماعى الغارقة فيه الأعمال الروسية، إنى لا أزعم أن الأدب الروسى وحده يحتاج إلى هذه التربة الممهدة لقراءته، ولا أزعم أننا لا يمكننا أن نقرأه إلا بهذه الطريقة، لكنى أؤكد بتيقن كامل أن ارتباط الأدب الروسى بالواقع المحيط به قد يكون أكبر من ارتباط آداب مناطق أخرى كثيرة من العالم، ومن الملفت للنظر بخصوص ذلك أن المدرسة الواقعية التى ترسخت تقاليدها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر لا تزال سائدة رغم ظهور اتجاهات عديدة ومختلفة وحيوية بالطبع عبر مراحل زمنية مختلفة. هذا الارتباط الشديد بالواقع والالتزام المجتمعى الذى شعر به الأدباء فى تلك المرحلة ترك أثرًا شديدًا لا يزال مستمرًا، وفى الآن ذاته كان بمثابة استجابة لظروف استثنائية وتقلبات عنيفة جدًا مرت بها روسيا منذ تلك الفترة وحتى الآن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة