كنت قد سمعت أغنية "جرى إيه للدنيا" التي غناها لطفي بوشناق من كلمات عبد السلام أمين وألحان أحمد صدقي، حين وصلتني دعوة السفير المصري في تونس "إيهاب فهمي"، للعشاء ضمن الوفد المصري الذي يحضر مهرجان أيام قرطاج السينمائية، كانت صدفة عظيمة حين عرفت أن الفنان التونسي الكبير سيكون حاضرًا العشاء، بينما أستمع إلى أغنيته التي قدمها نحو العام 1985، إذ أقوم بدراسة عن الموسيقار المصري أحمد صدقي، وأحاول أن ألتقط من نغماته كيف قام بنحت هذا اللحن الشرقي الصلب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، واستطاع أن يحوله إلى موسيقى مرنة تأسر القلب، وأن يُطوع بوشناق صوته مع أوزانه الموسيقية شديدة الخصوصية، يتدرج صوت بوشناق ويحملنا معه ما بين الأسى والتساؤل:
جرى إيه للدنيا يا ناس/ لياليها بتسبق أيامها وتصحي الناس من أحلامها/ وتقرب ناس وتغرب ناس.
نعم، إنها الصدفة السعيدة التي جعلتني مستغرقة في أغنية شكلت بداية قوية لبوشناق، بعد ذاع صيته في غناء الموشحات والابتهالات والمالوف التونسي حينذاك، وتُوجت بلقاء حرص فيه السفير المصري أن يشرح لنا قيمة لطفي بوشناق، كما نعرفها جميعًا، لكن هذا الحرص جاء من فهم وإدراك كبير ليس فقط لمشوار فنان كبير، وإنما بوعي حقيقي لدور الفن والثقافة وتأثيرهما في تكوين الشعوب وكذلك في أسلوب التواصل بينها.
المثير أنه قبل اللقاء بدقائق، حاصرني صوت بوشناق أداءً وكلمات ولحنًا: "لاموني اللي غاروا مني وقالولي إش عجبك فيها/ جاوبت اللي نـاهـد صـلاحجهلو فني خدوا عيني شوفو بيها".. هذه الأغنية الجالبة للفرح، يحفظها المصريون ظهرًا عن قلب ويرددونها في مناسبات كثيرة، فالغناء هنا يعتمد يعتمد على اللغة والكلمة واللحن هو وسيط تعبيري يحمل الحالة العاطفية، يقابل كل ذلك إحساس بوشناق بما يجعل الغناء الطالع من حنجرته، متكاملًا في نسيج غنائي موسيقي، وبناء إنفعالي، لتظهّر الأغنية مستوفية شروطها في عمل بديع متكامل.
صحيح أنني فرحت بالصدفة، لكن انتابني بعض القلق من مقابلة فنان مثله نشأ ونشب على الموسيقى، حتى صار أحد أعلامها مطربًا وملحنًا وعازفًا متمرسًا، هذا غير حضوره في مجال الموسيقى التصويرية لبعض المسلسلات والأفلام التونسية، خفت أن يكون حديثه مقتضبًا وتشوبه صبغة النجوم، لكني فوجئت به كما لم أعرفه من قبل، إنسان مرهف الحس، فنان عميق عمق تجربته الحافلة، منذ غنائه الموشحات والقصائد الكلاسيكية إلى خروجه عن المسار المنمط، تحدث بوشناق كثيرًا عن تأثير مصر في الفن العربي ووصفها بأنها الوتد للأمة العربية بأكملها، كما تطرق إلى نشأته على الموسيقى المصرية وتأثره، بل تلمذته على يد الموسيقيين المصريين الكبار، حتى صار كبيرًا مثلهم وبسيطًا في طرحه الإنساني بلا تعقيدات النجومية.
إنه نجم كبير لا شك في ذلك، لكن هذا لا يغير من مساره الإنساني، وصحيح أنه فنان وفي للتراث الشرقي في الموسيقى، لكنه أيضاً متجدد ويعبر بسلاسة عن طموحاته في الموسيقى والغناء، بدليل أنه قدم مثلًا في الفترة الأخيرة أغنية بعنوان "نبني"، بين الغناء الطربي والراب.
اللقاء في حد ذاته مفاجأة، لكن المفاجأة الأكبر كانت في مشروع الأغاني الجديدة التي قام بتلحينها عن كلمات للشاعر ماجد يوسف، أغان لها طابع مصري خاص، منها ما يصلح للعرض والإذاعة في شهر رمضان، لأنها تشبه مسحراتي فؤاد حداد وسيد مكاوي، حيث تقدم المهن والمهنيين المصريين، وطبائعهم وأسلوب حياتهم في المجتمع المصري.. إنها أغاني شديدة الدفء والحميمية وكذلك تحمل في طياتها الكثير من النوستالجيا، وفي ذات الوقت تبدو شديدة المعاصرة، وشديدة المحبة للمصريين، هذا ما لمسناه في كلامه وطريقة طرحه للمشروع، فهو لم يعتبر نفسه كفنان تونسي غريبًا عن مصر، مؤكدًا أن هذا إحساس لم ينتابه أبدًا، وهذا ما تحدثت عنه أيضًا الفنانة هند صبري التي حضرت اللقاء مؤكدة أنها التونسية المصرية تعيش ابنة وفية للبلدين، والأمر هذا يستوعبه الجمهور المصري جيدًا في تعاطيه مع هند وأعمالها.
الفكرة هنا قائمة على فكرة الفن كجسر تواصل مهم، يصعب أن ينكره أحد، حتى أن أحد باعة السوق القديمة في تونس مثلًا، قال لي مصر أم السينما والفنون، عندما وجدني أعلق "بادج" مهرجان أيام قرطاج السينمائية، ومن هذه النقطة فإن لطفي بوشناق أحد فرسان اللحن العربي، اعتمد على فخامة الصوت وكذلك على معرفة غنائية، كوسيلةٍ فكريةٍ للتعبير، تتجسد في مبادئ وقوالب موسيقية متعارَف عليها ولازِمة لتميز المطرب. بوشناق ربط بين ما يؤديه، وبين الخلفية الثقافية للعصر الذي نبع فيه ، كما أدرك بحدسه الذكي ضرورة التطور وبرع في ذلك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة