مما لاشك فيه أن فلسطين هى قضية العرب المركزية، بل إنها كانت من المسلمات قبل بضعة عقود، خصوصا لدى مقارنة معاناة الشعب الفلسطيني في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مع بقية الشعوب العربية، لكن للأسف مؤخرا تراجع طرح القضية عربيا وإقليميا في تواز مخل مع التوغل الإسرائيلي في التهام الأراضي وبناء المستوطنات وغيرها من ممارسات قمعية أدت بالضرورة إلى حلحلة الشأن الفلسطيني الذي غدا مطروحا على أجندة القمم العربية والدولية بشكل نظري في إطار ذر الرماد في العيون فقط، ويبدو في الأفق ثمة إشكالية كبيرة في الحالة العربية، مطلوب فهمها فلسطينيا، والمساهمة في معالجتها، وإيلاؤها الاهتمام والحرص والكياسة.
وهذه الإشكالية تبدأ من حقيقة تعرض عدد من الدول العربية لتدمير فعلي لأسباب شتى، بدءا من العراق، إلى سورية وليبيا واليمن، فضلا عن مشكلات كبيرة في دول أخرى كلبنان، الأمر الذي أدى موضوعيا إلى ضعف كبير في الحالة العربية، لا شأن للمواقف السياسية بها، إلا إنه عكس نفسه سلبيا، بطبيعة الحال، على كيفية تعامل مختلف الأطراف في عالمنا مع الواقع العربي وقضاياه، وبينها القضية الفلسطينية.
وعلى حد قول السياسي والديبلوماسي الفلسطيني ناصر القدوة، يشكل العالم العربي البعد القومي للقضية الفلسطينية، ويشكل الموقف العربي الداعم لها الرافعة الأساسية للنضال الفلسطيني من أجل تحقيق الأهداف الفلسطينية الوطنية، والمطلوب هو أن يكون هذا الفهم جزءاً دائماً من الوعي الجمعي الفلسطيني، وأن يتحول إلى مواقف يومية نابعة من الحرص على الوضع العربي، وعلى العلاقة الرسمية والشعبية، فضلا عن جانب آخر من المشكلة تمثل في بروز ونمو ظاهرة الإرهاب وارتباطها ببعض التيارات الإسلاموية، الأمر الذي حرص كثير من الجهات المعادية على تضخيمه وإعطائه معاني سلبية بشكل مقصود، وصولاً إلى العداء للإسلام والشرق عامة.
وبالتاكيد سبب هذا الأمر كثيراً من الصعوبات والمشكلات للحالة العربية داخلياً وخارجيا، وترافق مع موجات الهجرة غير المشروعة من مجتمعات عربية في اتجاه أوروبا تحديدا، وهو ما أدى إلى تعاظم الرفض والعداء للعرب والمسلمين، وترتبت عليه خسارة كبيرة للقضية الفلسطينية التي باتت قطاعات واسعة في المجتمعات الغربية تربطها بالإرهاب والهجرة، بدلاً من ربطها بالجوانب العادلة لحركات التحرر في العالم، بالإضافة إلى جانب ثالث للمشكة تمثل في السياسات الإقليمية لإيران تجاه عدد من الدول العربية، والتي كان هدفها زيادة نفوذ الجمهورية الإسلامية في هذه الدول، وما استتبعها من ضعضعة لاستقرارها الداخلي وزيادة التوتر فيها.
وظني أن هذه الحالة ولدت بالضرورة قلقا عميقا لدى بعض الدول، وخصوصا في الخليج، بشأن استقرارها السياسي وسلامتها الإقليمية، وقد ترافق هذا الأمر مع التوتر السني - الشيعي الذي تسبب بنكسات داخلية كبيرة، وحتى لو سلمنا بأن اللعبة أو النزعة الطائفية مصدرها إيران، فعلينا أن نؤكد أن مواجهة ذلك لا يكون بالانجرار إلى المنطق الطائفي، وإنما باتباع سياسات لاطائفية تعود بنا إلى ما كانت عليه المنطقة ما قبل التوترات.
وما زاد الطين بلة، هو العنصر الرابع للمشكلة، والمتمثل في تدهور الأوضاع الداخلية في عدد من الدول العربية، والذي قوبل بإجراءات قمعية، فضلا عن ظهور خلافات حادة بين بعض الدول العربية أو معظمها وبين بعضها الآخر، واستقطاب أخرى في محاور إقليمية وفي محاور مضادة، علاوة على ذلك، هناك التدخل العنيف واستخدام السلاح والمال والتكتيل والتآمر السياسي من جانب بعض الدول في مواجهة دول أخرى قائمة أو منهارة، من دون أن يكون لذلك كله نتائج حقيقية غير التدمير.
هذه الصورة القاتمة والإشكالية الكبيرة، يبدو أنها تؤرق الرئيس عبد الفتاح السيسي فقرر أن ترواح القضية الفلسطينية مكانها مع بداية عام جديد يشهد تطورات مذهلة عربيا وإقليميا ودوليا، وذلك في ظل تشجيع الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة (بايدن) الذي أشار في خطاب التنصيب قبل يومين إلى إلغاء رؤى استراتيجية لسابقاتها، وأن تطرح رؤى جديدة للشرق الأوسط، مستغلة أو مستفيدة من الوضع القائم، وأن تحاول تحقيق مكاسب كبرى لها ولإسرائيل، حليفتها في المنطقة، سواء أكانت هذه المكاسب سياسية أم مالية.
ومن هنا حظيت القمة المصرية الأردنية بأهمية خاصة، لا سيما في ظل خصوصية العلاقة التي تجمع البلدين، والعلاقات الاستراتيجية الراسخة بينهما، فضلاً عن دورهما في القضية الفلسطينية، باعتبارهما من الدول المحورية الرئيسية المعنية بالملف، وقد عقدت تلك القمة الثنائية في ظل مستجدات عدة على الساحة السياسية، وفي ظل جهود لوضع أفق أرحب للتسوية السياسية وإنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، عبر استعادة مسيرة السلام لوضعها الطبيعي، من بين أبرز تلك المستجدات اتفاقات السلام الموقعة أخيراً بين دول عربية وإسرائيل، وأيضاً مع وجود إدارة أميركية جديدة، إضافة إلى دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى إجراء انتخابات عامة، لأول مرة منذ 15 عاماً.
وقد جاءت أهمية زيارة الرئيس السيسي للأردن في إطار ضخ الدماء في شيرايين القضية الفلسطينية قبيل تنصيب (بايدن) لرئاسة الولايات المتحدة بيومين، وكأنه يقرأ المستقبل ،وانطلاقا من إدراك دفين لدي الرئيس السيسي بأن واقع الحالة العربية قاتم للغاية، وهو يحتاج إلى حكمة، لكن أيضا إلى شجاعة من أجل معالجته وتغييره، وعلى الأقل لكيفية التعامل الصحيح معه فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وهذا الأمر يتطلب، ضمن أمور أخرى، حوارا صريحا ومفتوحاً مع الأشقاء العرب، لذا قام بزيارته الأخيرة للأردن في إطار التشاور وإجراء الحوار الذي يجب أن يبقى هادئاً وموضوعيا بعيدا عن بعض المزايدات والمغالطات، وإعادة توضيح طبيعة الخطر الإسرائيلي باعتباره الخطر الرئيسي دون غيره على مجمل القضية.
ربما حملت القمة في طياتها ضرورة التأكيد على العلاقة الأردنية المصرية بأنها علاقة استراتيجية وعميقة، وهنالك الكثير من المصالح المشتركة بين البلدين، لا سيما الاقتصادية، ذلك أن القرب الجغرافي من البلدين يجعل من هذه المصالح مصالحاً حيوية عليا، كما لابد أن يؤخذ في الحسبان أن الأردن كان من أكثر الدول الداعمة للقيادة المصرية، وكان دائماً يؤمن بدور مصر الطليعي والاستراتيجي كدولة أساس ومحورية، في إحداث التوازن في الشرق الأوسط.
وما يؤكد ذلك أكثر هو خصوصية العلاقة بين جلالة الملك وفخامة الرئيس السيسي، باعتبار أن لها أثرا كبيرا على تطوير هذه العلاقة وجعلها راسخة وثابتة، ومن هذا المنطلق كانت هنالك ملفات عديدة تم التباحث فيها، بداية من ملف العلاقات الثنائية، وكذلك القضية الفلسطينية؛ كون البلدين من الدول المحورية الأساسية المعنية بملف القضية الفلسطينية، ومسألة التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة، والدفع باتجاه مسار سلمي ذي مصداقية، يضع أفقاً أرحب للتسوية السلمية، وإنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
صحيح أن الفترات الأخيرة شهدت سلسلة من اللقاءات التي جمعت مسؤولي البلدين، من أجل التشاور والتنسيق بخصوص القضية الفلسطينية بشكل خاص، منها اجتماع القاهرة في ديسمبر الماضي، وكذلك اجتماع (مجموعة ميونيخ) الذي استضافته القاهرة قبل أيام قليلة، ومن ثم جاءت الزيارة في ظل التنسيق والتعاون المستمر بين الرئيس المصري والعاهل الأردني، سواء تنسيق مواقف البلدين بالنسبة لتطورات القضية الفلسطينية أو بالنسبة لمواقف البلدين بالنسبة للحرب على الإرهاب والأوضاع الإقليمية بصفة عامة.
وجاءت فعاليات تلك القمة بين "الرئيس السيسي والعاهل الأردني" بعد اجتماع وزراء خارجية مصر والأردن وفلسطين الذي استضافته القاهرة، وعقب اجتماع وزراء خارجية مجموعة ميونيخ التي تضم مصر والأردن إلى جانب ألمانيا وفرنسا، والذي تم خلاله التأكيد على حل الدولتين وتفعيل المصالحة الوطنية الفلسطينية، وتكمن أهمية القمة (المصرية الأردنية) في أنهما أول دولتين وقعتا اتفاق سلام مع إسرائيل، وبالتالي دورهما ورأيهما مهمان في هذه الفترة، من أجل استعادة مسيرة السلام مرة أخرى لوضعها الطبيعي، ومن هنا فإن اللقاءات المتكررة بين مصر والأردن سلوك طبيعي في الفترة الراهنة، نظرا لما يجمع البلدين من قضايا وعلاقات مشتركة.
ويظل التأكيد على أن القضية الفلسطينية، بأهميتها القومية والدينية والمعنوية، ضروريا في هذه المرحلة الحساسة من عمر القضية المحورية في تاريخ العرب، ما يعني أن تضرر المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني سيدمر كثيرا من الأعراف وقواعد العمل في المنطقة، وسيكون له تبعاته على الجميع، بما في ذلك بسبب الموقف الشعبي داخل العديد من هذه الدول، بل إنه العقلية التوسعية الإسرائيلية، فيما بعد فلسطين، وعقلية الهيمنة السياسية والاقتصادية، كتلك السياسات الإسرائيلية التوسعية التي تهدد فعلاً الجولان السوري (اعترفت الإدارة الأميركية السابقة بضمه من طرف إسرائيل في سابقة لا مثيل لها في ظل القانون والموقف الدوليين)، والجنوب اللبناني وسيناء المصرية (أو جزء منها على الأقل)، ولاحقا الأردن.
كل تلك المواقف وغيرها كانت على أجندة قمة عمان، انطلاقا من إنه استراتيجياً، لا بد من العودة إلى التمسك بمركزية القضية الفلسطينية ومركزية الخطر الإسرائيلي في المنطقة، ولعل الحالة العربية، بعيدا عن المسألة الإسرائيلية، تتطلب مقاربة شاملة، بما في ذلك معالجة الأوضاع الداخلية في بعض هذه الدول، وتحديد نمط علاقات صحي بينها، ومنها إعادة تنظيم العمل العربي المشترك ليصبح ذا مردود إيجابي لجميع المشاركين فيه، وليكون في قدرته بالتالي أن يشكل خيمة بديلة من الخيمة المهترئة، إن وجدت، التي توفرها السياسات الأميركية - الإسرائيلية تجاه المنطقة.
و من أجل كل ما مضى تطرقت المباحثات إلى سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في كافة مجالات التعاون التجارى والتنموى والاستثماري، فضلا عن التعاون الأمنى وتبادل المعلومات، بالإضافة إلى استعراض عدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، حيث توافقت رؤى الجانبين بشأن تعزيز مساعيهما لحشد جهود المجتمع الدولي من أجل التوصل إلى تسويات سياسية للأزمات التي تشهدها بعض دول المنطقة وتقويض خطر الإرهاب والتطرف، بما يستعيد الأمن والاستقرار ويحافظ على وحدة أراضى تلك الدول ويصون مقدرات شعوبها.
وبحسب خبراء سياسيين فإن القمة المصرية الأردنية في عمّان جاءت في توقيت مهم في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة خلال الآونة الأخيرة، موضحين أن العلاقات بين البلدين قوية وراسخة ووثيقة، حيث يجمعهما مجالات تعاون عديدة فضلا عن تطابق في وجهات النظر بشأن الأزمة العربية، ومن هنا تصدرت القضية الفلسطينية أجندة المباحثات بين الرئيس السيسي والعاهل الأردني، فضلا عن الملفات العربية الأخرى مثل الأزمة السورية واليمنية والليبية، فهذه كانت أيضا مطروحة خلال المباحثات للوصول لحل سلمي لهذه القضايا، لأن أي تدخل أجنبي في هذه القضايا يؤثر عليها سلبيا ويضر بأمن المنطقة، وخاصة أن مصر والأردن تدعوان للحل السياسي لهذه القضايا، بالإضافة إلى مستقبل المنطقة العربية في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة في عهد الرئيس الجديد بايدن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة