"تنصيب الرئيس".. عادة ما يكون يوما احتفاليا في الولايات المتحدة، يأتي فيه المدعون إلى ساحة البيت الأبيض، ليحتفلون بخروج الرئيس المنتهية ولايته من العرش، ليدخل مكانه الرئيس المنتخب، بينما يتخلله كلمة وقسم، في الوقت الذى تتباهى فيه الأقلام بديمقراطية أمريكا العتيدة، مع إبراز التحيات المتبادلة بين المتنافسين والخصوم السياسيين، ليقدمون الدرس التقليدي لدول العالم الثالث عن الكيفية التي تدار بها السياسة في دول العالم المتحضر.
إلا أن الأستاذ الأمريكي، على ما يبدو لن يكون قادرا على تقديم نفس الصورة اللامعة التي اعتاد على تصديرها للعالم، فالمشهد صار ملوثا بفيروس قاتل، يفرض واقع تباعدى، يدفع نحو تقليل أعداد الحضور، كما شوهته أعمال عنف غير مسبوقة، أمام مبنى الكونجرس، سالت فيها دماء عدد من الأمريكيين، في الوقت الذى لن يحضر فيه الرئيس المنتهية ولايته، ليحرم الكاميرات وأساتذة التنظير السياسى من الإسهاب في وصف لقطة المصافحة بين الرئيسين، التي ولدت من رحم الديمقراطية الأمريكية.
وهنا يصبح "التباعد" بمثابة القاعدة المفروضة على مراسم التنصيب المرتقب للرئيس المنتخب جو بايدن، فيحمل شقا ماديا يقوم في الأساس على ضرورة احترام الإجراءات الاحترازية في إطار مجابهة فيروس كورونا، بينما يحمل في جانب أخر تباعدا معنويا، ترجمته حالة الشقاق غير المسبوق في الداخل الأمريكي، ظهرت أولا في تقارب الأصوات بين المتنافسين، ثم تجلت بصورة أعمق في احتجاجات قطاع كبير من الأمريكيين، منذ الإعلان عن النتائج في نوفمبر الماضى، لتصل إلى ذروتها أمام الكونجرس، في 6 يناير الماضى، وما تلى ذلك من إجراءات من شأنها محاولات عزل ترامب في أيامه الأخيرة.
وفى الواقع، فإن المعطيات سالفة الذكر تفرض العديد من الإجراءات، سواء على مستوى الاحتفال، الذى سييكون مختصرا بكل تأكيد، بينما ستتبدل الشعارات الديمقراطية التى طالما تباهت بها الولايات المتحدة لسنوات، إلى مظاهر أمنية غير معتادة، على رأسها انتشار عناصر الجيش والشرطة فى شوارع العاصمة، بالإضافة إلى حظر التجمعات، فى الأماكن القريبة من مقر الاحتفال، فى إطار حالة من الطوارئ، تحسبا لأية أمور من شأنها تشويه صورة "أمريكا المتحضرة".
ولعل الإعلان عن "الطوارئ" في واشنطن، لم يكن قرارا ضمنيا أو استنتاجيا، فهو قرار رسمي من قبل الرئيس دونالد ترامب، والذى أعلن فعليا فرض حالة الطوارئ في العاصمة الأمريكية حتى يوم 24 يناير، وذلك في إطار "تأمين" يوم التنصيب المرتقب، في الوقت الذى يبدو فيه "رد الفعل" من أنصار الرئيس المنتهية ولايته غير متوقعا أو محسوبا، إذا ما وضعنا في الاعتبار ما شهده الكونجرس وقت التصديق على فوز بايدن.
يبدو أن "تنصيب" بايدن يحمل في طياته صورة حقيقية لواقع جديد للمشهد الأمريكي، لا يختلف اثنين من البشر أنه قد شهد تغييرا عميقا في السنوات الماضية، بينما يبقى من المؤكد أنها سوف تحمل تداعيات كبيرة على مستقبل أمريكا في سنوات ما بعد ترامب، سواء في الداخل الأمريكي أو فيما يتعلق بالعلاقات الدولية لواشنطن في السنوات القادمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة