نقرأ معا كتاب "أسلحة، جراثيم، وفولاذ.. مصائر المجتمعات البشرية" لـ جــارِد دايـمـونـد، ترجمة ترجمة: مازن حمّاد ومراجعة محمد الزواوى، والكتاب فائز بجائزة "بوليتزر" ويدون الطريقة التي أصبح فيها العالم المعاصر وتقسيماته غير المتساوية على شاكلته الحالية.
يقول الكتاب، نعلم جميعًا أن تطور التاريخ يختلف اختلافًا كبيرًا له صلة بالاختلاف بين الشعوب فى شتى أنحاء المعمورة، وفى الأعوام الثلاثة عشر ألفًا التى أعقبت نهاية العصر الجليدى الأول، طورت بعض مناطق العالم مجتمعات صناعية غير أمية تملك أدوات معدنية، بينما طورت مناطق أخرى مجتمعات زراعية وأمية فقط، فيها احتفظت مجتمعات أخرى بطابع الصيد والأدوات الحجرية، لقد ألقت هذه اللامساواة بين تلك المناطق ظلالًا طويلة على العالم المعاصر لأن المجتمعات غير الأمية صاحبة الأدوات المعدنية غزت وأبادت المجتمعات الأخرى.
ورغم أن تلك الفوارق شكلت الحقيقة الأساسية الأهم فى تاريخ العالم، فإن أسباب حدوثها ما زالت غير مؤكدة، ومثيرة للجدل. هذه المسألة المحيرة والمتعلقة بأصول تلك المجتمعات دُبرتها بنفسى قبل 25 عامًا وبصورة شخصية ومبسطة.
فى يوليو 1972 كنت أتنزه على الشاطئ الاستوائى لغينيا الجديدة فى إطار دراستى، كعالم أحياء، لنشوء الطيور وتطورها، وكنت قد سمعت وقتها عن سياسى محلى مرموق يدعى "يالى"، كان يتجول فى تلك الأنحاء وقتها، وبالصدفة كنت ويالى نسير فى ذات الاتجاه فى ذلك اليوم إلى أن لحق بى، ومشينا معًا ساعة تحدثنا خلالها طوال الوقت.
كان "يالى" يشع بالطاقة والكاريزما، وكانت عيناه تلمعان وتدفعانك إلى التمسمر، كما كان يتحدث عن نفسه بثقة، وإن كان يتوجه بالكثير من الأسئلة المهمة وينصت إلى الإجابات باهتمام عميق، بدأ حوارنا بموضوع كان يشغل آنئذ كل عقل فى غينيا الجديدة، ألا وهو: التطورات السياسية المتلاحقة. وكانت بابوا وغينيا الجديدة كما يسمى وطن "يالى" الآن، محكومة من قِبَل أستراليا المنتدبة من قبل الأمم المتحدة، لكن الاستقلال كان قريبًا، وشرح لى "يالى" دوره فى كيفية إعداد شعبه لحكم أنفسهم.
بعد فترة، غيّر "يالى" مجرى الحديث وبدأ يمتحننى، لم يسبق له أن غادر غينيا الجديدة، ولم يتعدّ تعليمه المرحلة الثانوية، كان فضوله غلابًا، أراد أن يتعرف أولًا على عملى فى متابعة طيور غينيا الجديدة متسائلًا على سبيل المثال عن الراتب الذى أتقاضاه لقاء ذلك، شرحت له كيف أن مجموعات مختلفة من الطيور استوطنت فى غينيا الجديدة على مر العصور، ثم سألنى عن كيفية وصول شعبه إلى تلك البلاد عبر آلاف السنين، وكيفية استعمار الأوروبيين البيض لغينيا الجديدة فى الأعوام المائتين الأخيرة.
بقى الحوار وديًا رغم علمنا هو وأنا، بالتوتر القائم بين مجتمعيّنا، قبل مائتى سنة فقط، كان جميع أهل غينيا الجديدة "يعيشون فى العصر الحجرى"، أى أنهم كانوا يستخدمون أدوات حجرية تشبه الأدوات المعدنية التى سبقهم الأوروبيون باستخدامها قبل آلاف السنين، وكانوا يعيشون فى قرى لا تنتظم تحت أى سلطة سياسية مركزية. وعندما جاء البيض فرضوا الحكم المركزى وجلبوا بضائع أحسّ مواطنو غينيا الجديدة بأهميتها مثل الفؤوس الفولاذية، والكبريت والأدوية والملابس والمشروبات الخفيفة والمظلات، وكان الناس هناك يسمون هذه البضائع بالشحنات.
كان الكثير من المستعمرين البيض يحتقرون أهالى غينيا الجديدة علنًا ويعتبرونهم "بدائيين"، وكان حتى الأدنى حظًا من "الأسياد البيض" كما كانوا يسمون حتى عام 1972، يتمتعون بمستوى معيشة يتعدى بكثير أى مواطن، بمن فى ذلك سياسيون موهوبون مثل "يالى"، ولكن "يالى" امتحن بالأسئلة الكثير من البيض مثلما امتحننى ومثلما امتحنت أنا الكثير من مواطنى غينيا الجديدة. وكنت أعلم هو وأنا تمام العلم أن الغينيين الجدد هم فى المتوسط، بمستوى ذكاء الأوروبيين على الأقل، ولا بد أن كل تلك الأمور قد جالت فى ذهن "يالى" عندما سألنى وعيناه اللامعتان تصوبان لى نظرة خارقة: "لماذا طورتم أنتم البيض كل تلك الشحنات وجلبتموها إلى غينيا الجديدة، بينما لا نملك نحن السود شحنات خاصة بنا؟".
كان سؤالًا بسيطًا موجهًا إلى قلب الحياة كما خبرها ""يالى"، نعم ما زال هناك فارق ضخم بين طريقة عيش المواطن فى غينيا الجديدة، والأميركى أو الأوروبى، وتفرق المقارنات المعيشية بين شعوب أخرى فى العالم أيضًا، وهذه الفروق الهائلة لها بالتأكيد أسباب وجيهة وواضحة.
لكن سؤال "يالى" البسيط فى ظاهره هو سؤال من الصعب الإجابة عنه. لم يكن لديه جواب وقتها، وما زال المؤرخون المحترفون يختلفون حول المسألة التى لم يعد معظمهم يفكرون فيها، وخلال السنوات التى أعقبت حديثى مع "يالى"، درست وكتبت فى جوانب أخرى من تطور الإنسان وتاريخه ولغاته، وهذا الكتاب الذى جاء بعد 25 سنة يحاول أن يرد على سؤال "يالى".
ورغم أن أسئلة "يالى" تهتم فقط بالمقارنة بين أسلوب حياة الغينيين الجدد والأوروبيين البيض، فهى تنطبق أيضًا على لائحة طويلة من المقارنات فى إطار العالم الحديث، فالشعوب ذوو الأصول اليورو-آسيوية، وخصوصًا الذين ما زالوا يعيشون فى أوروبا وشرقى آسيا، إضافة إلى الذين تمت "زراعتهم" فى أميركا الشمالية، يسيطرون على العالم الحديث من حيث القوة والثراء. أما الشعوب الأخرى، بما فى ذلك معظم الأفارقة، فقد تخلصوا من السيطرة الاستعمارية الأوروبية، وإن ظلوا متخلفين قوة وثراء، كما أن شعوبًا أخرى كسكان أستراليا الأصليين "الأبورجين" وسكان الأميركيتين وأقصى الجنوب الإفريقى، لم يعودوا أسيادًا فى أراضيهم بل تمت تصفيتهم وقهرهم وفى بعض الأحيان إبادتهم من قبل المستعمر الأوروبى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة