كان الفرنسى «فرديناند ديليسبس» يقضى وقتا فى ريف فرنسا، معنيا فيه بترميم قصر لحماته، حسبما يذكر الدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الأول من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، مضيفا: «هناك بلغه نبأ مصرع عباس باشا والى مصر، وتولى سعيد أمر مصر، وبلغه ذلك النبأ فى 15 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1854، فلم يضيع وقتا وبعث برسالة إلى صديق صباه مهنئا ومستأذنا فى الحضور ليهنئ بشخصه».
تم مقتل عباس فى قصره بمدينة بنها، عاصمة محافظة القليوبية يوم 14 يوليو 1854، وتلقى ديليسبس خبر تولى سعيد الحكم بعدها بشهرين (15 سبتمبر 1854)، فاستدعى ذكريات صداقته القديمة مع الحاكم الجديد، وقرر توظيفها كى يفوز بتنفيذ حلمه بشق قناة السويس.
يذكر إلياس الأيوبى، كيف نمت العلاقة بين «ديليسبس» و«سعيد»، قائلا فى المجلد الأول من كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا»، أن «ديليسبس» كان نائبا لقنصل فرنسا بالإسكندرية وقت حكم محمد على، ولما شبّ «سعيد» عَهِدَ والده محمد على باشا إلى ديليسبس أمر الاعتناء بصباه..يوضح الأيوبى: «علّم الأمير اليافع ركوب الجياد، وحبب إليه إجهاد النفس فى التمارين الرياضية، وكان سعيد فى أشد الاحتياج إليها، لأنه كان عظيم الجثة بدينا إلى حد أن أباه حتم عليه حضور أربعة عشر درسا فى اليوم، والإكثار من الرياضة الجسمية لكى تذهب عنه بدانته، وكان يزنه كل أسبوع، فإذا وجده زائدا على ما كان فى الأسبوع السابق، عاقبه عقابا صارما، فإذا وجده ناقصا كافأه».
يؤكد الأيوبى: «نشأ عن اعتناء «ديليسبس» بسعيد، أن هذا الأمير الشاب صادقه مصادقة أكيدة وألفه ألفة زائدة، كان الباشا العظيم أبوه من أكبر مشجعيه عليها».. ويكشف الأيوبى، كيف بدأ ولع «ديليسبس» بمشروع قناة السويس، قائلا: «كان قنصل فرنسا العام بالإسكندرية فى ذلك العهد رجلا من أدباء عصره يقال له المسيو ميمو، وكان لا ينفك يقرأ كتاب «ترعة الاتصال بين البحرين» الذى وضعه المندوبون الذين عهد إليهم الجنرال بونابرت بحثها وفحصها، فأوجد غرام مطالعة ذلك الكتاب النفيس فى روح الشاب ديليسبس، فانكب على مطالعته باهتمام زائد، وما لبث أن ثبت فى ذهنه».
يذكر الحفناوى، أن ديليسبس فى صباه كان شابا وسيما حسن المظهر والهندام، ميكافيللى النزعة، يغشى المجتمعات الفرنسية، ويهوى السهرات الحمراء، ويراقص النساء، ويشعل الحشيش غير مبال، وغرم بالرياضة وركوب الخيل، حتى كان يروض الجياد ويدربها، وشاءت الظروف أن يدرب «سعيد»، وقرأ خبر توليه حكم مصر فرأى ليلة القدر فى وضح النهار.
لم يضيع ديليسبس وقتا وكتب رسالة إلى سعيد.. يذكر الحفناوى، أنه كتب رسالة إلى صديقه «رويزنير» القنصل الهولاندى فى مصر، يخبره فيها ما كتبه لصديقه سعيد فى رسالته: «قلت له (أى سعيد) إن مشاغل السياسة تركت لى فسحة من الوقت، أريد أن أنتهزها لأسافر إليه، وأقدم إليه احتراماتى، وطلبت منه أن يعين لى الوقت الذى يعود فيه من القسطنطينية، حيث كان قد سافر إليها ليتلقى فرمان توليته، ولم يضيع وقتا فى الرد علىّ، وحدد لى أوائل نوفمبر(1854) لأجتمع به فى مدينة الإسكندرية، وأنت أول من رأيت إحاطته علما برحلتى، وأن السعادة لتغمرنى إذ ألتقى بك من جديد فوق أرض الفراعنة العتيقة، ولكن حذار أن تنبس ببنت شفة عن مشروع حفر قناة السويس قبل حضورى».
وصل ديليسبس إلى الإسكندرية فى 7 نوفمبر،1854، وفى جيبه مذكرة أعدها ليرفعها إلى سعيد باشا، وفقا للحفناوى، مضيفا: «لم يبادر إلى رفعها رغم حفاوة استقباله، واحتفظ بها فى جيبه حتى تأتى الفرصة التى تسمح بتقديمها فى ساعة يكون فيها سعيد منشرح الصدر، مطمئن البال، خصوصا أن القنصل الهولندى أخبره بأن سعيد متأثر برأى والده الذى تجنب مشروع حفر القناة ليدرأ عن مصر متاعب كثيرة وأنه سيسير على سنة أبيه».
فى هذا الاستقبال الكريم الذى أعده سعيد لصديقه القديم.. يذكر الحفناوى: «بدأ الثعلب الفرنسى الماكر منذ اللحظة الأولى يتجسس ويسأل الخدم ورجال الحاشية، ومن صادفهم من الخلان عن مزاج سعيد وعاداته، وما صارت إليه طباعه، وفى 15 نوفمبر1854 قام سعيد برحلة إلى الصحراء الغربية على رأس 10 آلاف جندى بمدافعهم وخيولهم، وأراد أن يسير بهم فى الصحراء من الإسكندرية إلى القاهرة كلون من ألوان الرياضة، ودعا ديليسبس لمرافقته فيها، وأثناء الرحلة طرح ديليسبس مشروعه، ووافق سعيد عليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة