نواصل مع المفكر العربى الكبير طه حسين (1889- 1973) معرفة ما حدث فى زمن الفتنة لكبرى التى وقعت فى زمن سيدنا عثمان بن عفان، الخليفة الثالث، وأدت إلى مقتله، لكنه نارها لم تخمد، لقد اتسعت وهذا ما سنعرفه فى كتابه "الفتنة الكبرى.. على وبنوه".
يقول طه حسين فى الكتاب:
واجه المسلمون إثر قتل عثمان، رحمه الله، مشكلتين من أخطر ما عرض لهم من المشكلات منذ خلافة أبى بكر، إحداهما تتصل بالخلافة نفسها، والأخرى تتصل بإقرار النظام وإنفاذ أمر الله فيمن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض.
فقد أمسى المسلمون يوم قُتِل عثمان وليس لهم إمام يدبِّر لهم أمورهم ويحفظ عليهم نظامهم، وينفذ فيهم سلطانهم، ويقيم فيهم حدود الله، ويرعى بعد هذا كله أمور هذه الدولة الضخمة التى أقامها أبو بكر وعمر، وزادها عثمان سعة فى الشرق والغرب.
فهذه البلاد التى فُتحت عليهم ولم يستقر فيها سلطانهم بعدُ كانت فى حاجة إلى من يضبط أمرها ويحكم نظامها ويُبعد حدودها التى لم تكن تثبت إلا لتتغير؛ لاتصال الفتح منذ نهض أبو بكر بالأمر إلى أن كانت الفتنة وشُغِل المسلمون بها أو شُغِل فريق من المسلمين بها عن الفتوح.
وكانت للمسلمين جيوش مرابطة فى الثغور تقف اليوم لتمضى غدًا إلى الأمام، وهذه الجيوش لم تكن مشغولة بالفتح وحده وإنما كانت مشغولة كذلك بإقرار النظام فيما فُتح عليها من الأرض، وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، واستحداث نظم فى الإدارة تلائم مزاج الفاتحين، واستبقاء نظم فى الإدارة أيضًا تلائم مزاج المغلوبين، وهذه الجيوش كانت محتاجة إلى من يُمدها بالجند والعتاد، ويرسم لها الخطط، ويدبر لها من الأمر ما تحتاج إلى تدبيره.
وواضح أن الذين قتلوا عثمان لم يكونوا هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان نفسه من المهاجرين والأنصار، وإنما كانوا شراذمَ من الجيوش المرابطة فى ثغور البصرة والكوفة ومصر ومن ثاب إليهم من الأعراب ومن أعانهم من أبناء المهاجرين، وكانت الجِلَّة من أصحاب النبى المهاجرين والأنصار قد وقفت مواقف ثلاثة مختلفة من هذه الفتنة: فأمَّا كثرتهم فكانت ترى وتُنكر وتَهمُّ بالإصلاح فلا تجد إليه سبيلًا فتسكت عن عجز وقصور لا عن تهاون وتقصير، وأما فريق منهم فقد شُبِّهت عليهم الأمور فآثروا العافية والتزموا الحيدة واعتزلوا الفتنة، وكانت قد وقعت إليهم أحاديث عن النبى تخوِّف من الفتنة وتأمر باجتنابها، فلزم بعضهم البيوت، وترك بعضهم المدينة مجانبًا للناس فارًّا بدينه إلى الله.
وفريق ثالث لم يُذعنوا للعجز ولم يؤثروا الحيدة والاعتزال، وإنما سعوا بين عثمان وخصومه، بعضهم ينصح للخليفة ويحاول الإصلاح بينه وبين الثائرين، وبعضهم ينقم من الخليفة فيحرِّض عليه ويُغرى به، أو يقف موقفًا أقل ما يوصف به أنه لم يكن موقف المخذِّل للثائرين أو المنكر عليهم.
فلما قُتِل عثمان استرجع أكثر الصحابة لأنهم لم يستطيعوا أن ينصروه، وفكروا فى غد، وأرادوا أن يستقبلوا أمورهم وتهيئوا لما يُقبِل عليهم من الأحداث، وأمعن المعتزلون فى اعتزالهم وحمدوا الله على أنهم لم يشاركوا فى الإثم ولم يخبوا ولم يوضعوا فى الفتنة، وأما الآخرون فجعلوا يترقبون ما يصنع الناس، يفكرون فى أنفسهم أو يفكرون فيمن يلوذون به من الزعماء.
ولم يكن للمسلمين نظام مقرر مكتوب أو محفوظ يشغلون به منصب الخلافة حين يخلو، وإنما كانوا يواجهون خلوَّ هذا المنصب كما يستطيعون أن يواجهوه.
فأنت تعلم كيف بُويِع أبو بكر، وكيف رأى عمر أن بيعته كانت فَلتة وقى الله المسلمين شرها، وأنت تعلم أن عمر إنما بُويِع بعهد من أبى بكر إليه وإلى المسلمين، وقد قبل المسلمون عهد أبى بكر لم يُنكره ولم يجادل فيه منهم أحد. وقد همَّ نفر من المهاجرين أن يجادلوا أبا بكر نفسه فى هذا العهد فردهم عن هذا الجدال ردًّا قبلوه وأذعنوا له، وأنت تعلم أن عمر لم يعهد إلى أحد وإنما جعل الأمر شورى بين أولئك النفر الستة من المهاجرين الذين مات النبى وهو عنهم راضٍ، فاختاروا من بينهم عثمان ولم يختلف عليه منهم أحد، ولم يعهد عثمان، ولو قد فعل لما قبل الناس عهده لكثرة ما أنكروا عليه وعلى وُلاته وبطانته من الأحداث، أضف إلى ذلك أن الستة الذين عَهد إليهم عمر بالشورى قد أصبحوا حين قُتل عثمان أربعة، مات أحدهم عبد الرحمن بن عوف فى خلافة عثمان، وقُتِل ثانيهم وهو عثمان، فلم يبقَ منهم إلا سعد بن أبى وقَّاص والزُّبير بن العوام وطلحة بن عُبيد الله وعلى بن أبى طالب، وكان سعد قد اعتزل مع المعتزلين وتجنَّب الفتنة فيمن تجنَّبها، فلم يبقَ إذن إلا هؤلاء الثلاثة: على وطلحة والزبير.
ثم أضف إلى ذلك أن كثيرًا من أصحاب النبى الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة لم يكونوا حاضرين أمر الناس فى المدينة، فريق منهم قضى نحبه مستشهدًا فى حروب الرِّدَّة وفتوح الفُرس والروم، أو ميتًا فى فراشه، وفريق منهم رابطوا فى الثغور مجاهدين ما أطاقوا الجهاد، مستقرِّين فى الأمصار الجديدة حين عجزوا عن الجهاد، فلم تكن جماعة المهاجرين والأنصار التى شهدت مقتل عثمان فى المدينة كجماعتهم تلك التى شهدت بيعة الخلفاء الثلاثة.
وكان الأمر مختلفًا بين على وطلحة والزبير ليس لهم موقف واحد من الخليفة المقتول ولا من الظروف التى انتهت بقتله.
فأما على فكان يُخذِّل الناس عن الثورة والفتنة ما وجد إلى تخذيلهم عنهما سبيلًا، وقد سفَرَ بينهم وبين عثمان، كما رأيت فى الجزء الأول من هذا الكتاب وردَّهم عن المدينة، وسفَرَ بينهم وبينه مرة أخرى وأخذ لهم منه الرضى، وحاول حين استيأس من ردِّهم بعد أن احتلوا المدينة عَلى غِرَّةٍ من أهلها أن يقوم دون عثمان فلم يستطع، واجتهد فى أن يُوصل إليه الماء العذب حين أدركه الظمأ لشدةِ الحصار.
وأما الزُّبير فلم يَنشَط فى رد الثائرين نشاطًا ملحوظًا، ولم ينشط فى تحريضهم نشاطًا ملحوظًا أيضًا، ولكنه ظل يترقب وهواه مع الثائرين، ولعله لم يكن يظن أن الأمر سيصير إلى ما صار إليه.
وأما طلحة فلم يكن يُخفى ميله إلى الثائرين ولا تحريضه لهم ولا إطماع فريق منهم فى نفسه، وكثيرًا ما شكا منه عثمان فى السر والجهر، والرواة يتحدثون بأنه استعان عليه بعلى نفسه، وبأن عليًّا استجاب له فذهب إلى طلحة ورأى عنده جماعة ضخمة من الثائرين، وحاول أن يرده عن خُطته تلك فلم يستجب له طلحة فخرج على من عنده وعمد إلى بيت المال فاستخرج ما فيه وجعل يقسِّمه بين الناس، فتفرق أصحاب طلحة عنه ورضى عثمان بما فعل عليٌّ.
وزعم الرواة أن طلحة لما رأى ذلك أقبل حتى دخل على عثمان تائبًا معتذرًا، فقال له عثمان: لم تجئ تائبًا وإنما جئت مغلوبًا، والله حسيبك يا طلحة.
ومهما يكن من شيء فقد قُتل عثمان وهؤلاء الثلاثة فى المدينة يرقُبون ما يصنع الناس، وكان الثائرون قد ملأوا المدينة خوفًا ورعبًا، فلم يكن دَفن الخليفة المقتول إلا بلَيل وعلى استخفاء شديد من الناس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة