كان يوم 14 أغسطس، مثل هذا اليوم، عام 1896 هو اليوم الثالث على بداية تشغيل أول ترام كهربائى فى تاريخ مصر، وكانت دهشة الحدث ماتزال تخطف ألباب الناس وأبصارهم، وتهيئ الأحوال لإحداث تغييرات حضارية عميقة، يرصدها الكاتب محمد سيد الكيلانى، فى كتابه المهم «ترام القاهرة»، مؤكدا أن العاصمة انتقلت بعد الترام إلى أحوال أخرى غير تلك التى سادت قبله.
يعدد «الكيلانى» مظاهر التخلف العميقة التى كانت العاصمة عليها قبل الترام، مشيرا إلى أن القاهرة كانت تعوم فى بحيرة من القذارة تنوعت أشكالها.. «راجع، ذات يوم، 12 و13 أغسطس 2020».. ويذكر سوء الشوارع الذى أدى إلى صعوبة انتقال الإنسان من مكان إلى آخر.. يقول: «كانت الشوارع مملوءة بالحفر، وأكوام الفضلات والأحجار، وكان الحمار هو وسيلة انتقال الناس، وكان للحمير مواقف معينة يقصد إليها من يشاء منها موقف عند فندق «شبرد» القديم بشارع الجمهورية، الغرض منه خدمة السياح الأجانب، أما عربات الركوب التى تجرها الخيول فكانت للأغنياء، وقليل منها للتأجير لمتوسطى الحال، والعربات العامة المعروفة بـ«الأمينبوس» كانت تسير ببطء شديد ولمسافات قصيرة، ولم تظهر شركتا «سوارس» و«الصبان» إلا فى سنة 1899، أى بعد إنشاء الترام بنحو ثلاثة أعوام، وفضلا عما تقدم فإن طاعون الخيل كان ينتشر بين سنة وأخرى فيفتك بعدد عظيم منها». كان الاعتماد على الحمير وعربات الركوب التى تجرها الخيول فى التنقل يخلق مشكلات منها وفقا للكيلانى: «كان أصحابها يوجهون للجمهور ألفاظا سافلة، وعبارات نابية، حتى أصبحت كلمة حمار أوحوذى «عربجى» تعنى سوء الأدب وانحطاط الأخلاق بل وكل صفة قبيحة».
يذكر الكيلانى، أن الانتقال بالعربات التى تجرها الخيول كان يتم نهارا، لأنها بلا مصابيح، والإضاءة فى الشوارع كانت ضعيفة ويستخدم فيها غاز الاستصباح، ولم يكن فى جميع الشوارع، وترتب على ذلك نتائج اجتماعية سلبية يذكرها قائلا: «كان سكان كل حى يعيشون بمعزل عن سكان الحى الآخر، فساكن العباسية مثلا لا يفكر فى الذهاب إلى مصر القديمة إلا لأمر مهم، وقلما يفعل ذلك، وكان التجار وأصحاب الحرف يتخذون محلاتهم فى الحارات التى يسكنونها أو قريبا منها، والتلميذ الذى لا يجد مدرسة فى حيه ينصرف، فى الغالب، عن الدراسة، وظلت الحالة على ذلك حتى ظهر الترام فأحدث بظهوره ثورة هائلة فى حياة المجتمع القاهرى».
الثورة التى أحدثها الترام شملت كل مناحى الحياة.. يذكر الكيلانى: «لما أصبح فى قدرة سكان القاهرة الانتقال من مكان إلى مكان فى أى وقت شاء بفضل الترام، وكانت الخطوط كلها تبدأ من ميدان العتبة أو تنتهى إليه، فقد نشأت فى حى الأزبكية المحلات الكبرى لتجارة التجزئة، وبلغ من تزاحم التجار وأصحاب الفنادق والمطاعم والمقاهى والحانات أن ارتفع سعر المتر من أرض البناء فى حى الأزبكية إلى 60 جنيها سنة 1905، و90 جنيها فى الموسكى، ومن المحلات التجارية التى افتتحت بسبب تسيير الترام، محلات آل مدكور فى 7 ديسمبر 1896، وزارها الخديو عباس الثانى، وفى نفس العام افتتحت محلات يوسف وأحمد الجمال فى الموسكى واشتهرت بتجارة المنسوجات».
ساعد الترام على أن ينتقل الناس من مكان إلى مكان فى العاصمة، ولهذا ظهرت قيمة الإعلانات فى الصحف والمجلات.. يقول الكيلانى: «كان التاجر يعلن عن بضاعته وهو على يقين بأن الناس سيفدون عليه من جميع أنحاء العاصمة»، وتكرر الأثر فى مجالات أخرى، فعلى الصعيد الثقافى كثرت الجمعيات الأدبية والعلمية والدينية، ففى سنة 1898 تألفت الجمعية الطبية المصرية والجمعية الزراعية، وجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وجمعية شمس الإسلام، وفى 1897 صدرت مجلات، الأجيال، والصاعقة، وحمارة منيتى، وفى 1898 صدرت مجلات المنار والمرصاد والزمن وطبيب العائلة، وفى سنة 1899 صدرت مجلة الجمعية الزراعية والموسوعات والأسد المرقسى، والعائلة وهى مجلة علمية أدبية نسائية، وتم تأليف كتب كثيرة أشهرها «تحرير المرأة» لقاسم أمين عام 1899. يذكر «الكيلانى» أن وجود الترام أدى إلى التقريب بين فئات العمال وتوحيد كلمتهم، ففى نهاية أغسطس 1899 ألف عمال مصانع السجاير نقابة ترعى شؤونهم وتدافع عن حقوقهم، وفى أكتوبر من نفس العام تألفت نقابة عمال المطابع.. يضيف: حينما أتاح الترام لسكان العاصمة فرصة السهر خارج المنازل إلى ساعة متأخرة من الليل، ولم يكن هذا مألوفا من قبل استطاع الناس خاصة الشباب أن يتوجهوا إلى المسارح وصالات الرقص ودور الخيالة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة