أعدت العدة لأكلة المنطقة المفضلة، فهي حين تعدها، يكون للجيران (الذين هم من العائلة) نصيب فيها، وينتظرونها من الموسم للموسم.
إنها معركة الكرشات (الكوارع).
قبل أن أبدأ بالمشهد الرئيسي للحدث علي أن أعرفكم بشخوصه:
أمي: امرأة لا تبصر بعينيها، ولكن بصيرتها تخترق أعتى الحواجز… بتشوف بقلبها فعلاً.
أدهم: القائم بأعمال المنزل الإدارية داخلياً وخارجياً.
محمد: طباخها الخاص، يحمل شعار الاعتراض للاعتراض فقط… لكن طعامه الله عليه.
عُمر: وهو مرافق أبي في مرضه أيضاً، صبي هادئ لا يجادل ولا يماطل.
أم رمزي: من تساعد أمي في المنزل منذ عقود… كبر على يدها كبار الأحفاد.
تطلب أمي من مساعديها محمد وعُمر وأم رمزي غسل الكرشات جيدا…
افركها كويس يا محمد.
أم رمزي متسيبيش فيها ريحة خالص.
نعمل جريشة (عصيدة، فريكة، مفركة… لها اسماء عديدة باختلاف الدول) والا لأ يا عُمر؟
حدثت عُمر قائلة:
هات ملح يا عُمر من المخزن .
يهرول عُمر هابطاً السلالم متجهاً للمرأب الذي يوجد شوال الملح عنده، ( فأمي تشتري خزين المنزل بالحجم الاكس لارج كأن أبنائها كلهم لازالوا هناك، ولسنا موزعين على بقاع الأرض) يغترف الملح، يملأ برطماناً كبيراً، ويعود سريعاً للمطبخ.
عاد بالملح سكبه على الكرشات...
حدثتهم مرة أخيرة:
حطوها في الثلاجة منقوعة بالملح والسكر لبكرة، بكرة نكمل تنضيفها ونطبخها.
وتوجهت للأعلى حتى تنهي يومها الطويل، استعداداً للغد.
استيقظت في الصباح عالمة أن أمامها يوم ليس سهل، فمعركة الكرشات تقام مرة او مرتين في السنة، وذلك كما قيل على لسانها:
تنضيفها لحاله ياخد يومين ونص، وحشيها وخياطتها نص يوم كمان. وبعدين بتاخد عالنار العالية ساعتين تلاتة…. مش اكلة بامية هي.
احضروها لها عند مرحلة البهارات لتتذوق ملحها وفلفلها وحبهانها … تذوقت بطرف لسانها ثم تساءلت:
هي مال طعمها غريب ليه؟
أجابتها أم رمزي: هي البهارات اللي قولتي عليها، محطيتش اي حاجة تانية.
طيب دوقها أنت.
صح، طعمها في حاجة غريبة.
قول بقى تاني حطيت إيه؟
ملح، فلفل، حبهان وقرفة والبصل مع رز الحشوة.
هاتلي الحاجات دي اشمها،( فهي لا تراها).
احضروا البهارات وجلسوا يتفحصوها واحدة واحدة:
الفلفل كويس يا محمد…. و الحبهان زي الفل…. شوف البصل مرشوش، جه عليه حاجة؟!
مفيش اي حاجة، زي الفل.
هات الملح ادوقه.
تذوقت الملح…. ووجدت طعمه غريباً:
من فين الملح يا عُمر؟
من جنب باب الجراج في الشوال.
هاتفت ادهم، اذ كان خارجاً:
أدهم هات شوال ملح وانت جاي، الملح اللي انت جبته آخر مرة بايظ .
بايظ ازاي، ده هو هو اللي بنجيبه بقالنا سنين، ومبيقعدش انه يبوظ، معلش خلي عمر ينزل ويتأكد انه شوال ملح مش حاجة تانية… لان الشوال جنب حاجات تانية.
عاد عمر ليأخذ السلالم هبوطاً لباب المرأب حيث يوجد شوال الملح بجوار أشولة اخرى ليتأكد.
ثم عاد قائلاً:
ده مش ملح، ده سولفات الامونيوم بتاعت الجنينة.
سلفات امونيوم (ابنة عم نيترات الامونيوم بتاعت تفجيرات بيروت).... وزيادة في العلم هي مادة سامة مميتة.
اي مخرج عاقل يقفل الستار هنا….
لكن أمي… لأ طبعاً.
كأي ست اصيلة، قالت:
لنغسلها جيداً جيداً لنزيل السلفات عنها.
اعترض الجمع حولها خوفاً…وأخذ الجدال ساعة و نيف حتى قررت:
خلاص كلمولي ( احد مختصي الزراعة)
هاتفوا فراس:
دي مادة سامة.
طيب حتى لو غسلناها كويس.
دي بقت في الانسجة خلاص، والله العظيم ما ينفع.
اغلقت هاتفها الخلوي وكلها خيبة وحزن على الكرشات.
من موقعي هذا اقول لك يا امي:
زعلاااااااااااانةةةةة على ايه!!!!!!
كنتي هتعملي بيتنا بيروت يا امي!!!!!
محروق ابو الكرشات على الملح، على الاكل.
ودمتي لنا انتي والوالد والقبيلة سالمين.
أقوال شهود عيان:
خالتي (من منتظري الوليمة): كان هيكون انتحار جماعي.
خالتي الثانية: حد كان باصصلك فيها.
شكرا
آخر الكلام
شيلي أم شوال الملح من جنب سلفات الأمونيوم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة