نواصل مع المفكر العربى الكبير الدكتور طه حسين (1889- 1973) قراءة مشروعه الفكرى المهم الذى يعد أحد أعمدة الثقافة العربية فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه المهم "الشيخان".
يقول الكتاب فى مقدمته:
هذا حديث موجز عن الشَّيخين: أبى بكر وعمر رحمهما الله، وما أرى أن سيكون فيه جديد لم أسبق إليه، فما أكثر ما كتب القدماء والمحدثون عنهما! وما أكثر ما كتب المستشرقون عنهما أيضًا! وأولئك وهؤلاء جدُّوا فى البحث والاستقصاء ما أُتيحت لهم وسائل البحث والاستقصاء، وأولئك وهؤلاء قد قالوا عن الشيخين كل ما كان يمكن أن يُقال.
ولو أنى اطعت ما أعرف من ذلك لما أخذت فى إملاء هذا الحديث الذى يوشك أن يكون مُعادًا، ولكنى أجد نفسى من الحب لهما والبرِّ بهما ما يُغرينى بالمشاركة فى الحديث عنهما، وقد رأيتنى تحدثت عن النبى ﷺ فى غير موضع، وتحدثت عن عثمان وعلى رحمهما الله، ولم أتحدث عن الشيخين حديثًا خاصًّا بهما مقصورًا عليهما.
وأجد فى نفسى مع ذلك شعورًا بالتقصير فى ذاتيهما، كما أجد فى ضميرى شيئًا من اللوم اللاذع على هذا التقصير.
وأنا مع ذلك لا أريد إلى الثناء عليهما، وإن كانا للثناء أهلًا؛ فقد أثنى عليهما الناس فيما تعاقب من الأجيال، والثناء بعد هذا لا يُغنى عنهما شيئًا، ولا يجدى على قارئ هذا الحديث شيئًا، وقد كانا رضى الله عنهما يكرهان الثناء أشد الكره ويضيقان به أعظم الضيق.
وما أريد أن أفصِّل الأحداث الكثيرة الكبرى التى حدثت فى أيامهما؛ فذلك شيء يطول، وهو مفصَّل أشد التفصيل فيما كتب عنهما القدماء والمُحدثون.
وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما رُوى عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين، ومن تاريخ العصر القصير الذى وليا فيه أمور المسلمين أشبه بالقصص منه بتسجيل حقائق الأحداث التى كانت فى أيامهما، والتى شقَّت للإنسانية طريقًا إلى حياة جديدة كل الجدة.
فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين إكبارًا يُوشك أن يكون تقديسًا لهما، ثم أرسلوا أنفسهم على سجيتها فى مدحهما والثناء عليهما، وإذا كان من الحق أن النبى ﷺ نفسه قد كذب الناس عليه، وكان كثير من هذا الكذب مصدره الإكبار والتقديس، فلا غرابة فى أن يكون إكبار صاحبيه العظيمين وتقديسهما مصدرًا من مصادر الكذب عليهما أيضًا.
والقدماء يقصُّون الأحداث الكبرى التى كانت فى أيامهما كأنهم قد شهدوها ورأوها رأى العين، مع أننا نقطع بأن أحدًا منهم لم يشهدها، وإنما أرَّخوا لهذه الأحداث بأخرة، وليس أشد عُسرًا من التأريخ للمواقع الحربية ووصفها وصفًا دقيقًا كل الدقة، صادقًا كل الصدق، بريئًا من الإسراف والتقصير.
والذين يشهدون هذه المواقع ويشاركون فيها لا يستطيعون أن يصِفوها هذا الوصف الدقيق الصادق؛ لأنهم لم يروا منها إلا أقلَّها وأيسرها، لم يروا إلا ما عملوا هم وما وجدوا، وقد شغلهم ذلك عما عمل غيرهم.
وما ظنك بالجندى الذى هو دائمًا مشغول بالدفاع عن نفسه واتقاء ما يسوقه إليه خصمه من الكيد؟! أتراه قادرًا على أن يلاحظ ما يحدث حوله، وما يحدث بعيدًا عنه من الهجوم والدفاع، ومن الإقدام والإحجام؟! هيهات! ذلك شيء لا سبيل إليه.
وإنما يستطيع المؤرِّخون المتقنون أن يحقِّقوا عواقب المواقع وما يكون من انتصار جيشٍ على جيشٍ وانهزام جيش أمام جيش، وما يكون أحيانًا من إبطاء النصر أو إسراعه، ومن طول المواقع أو قصرها، ومن امتحان الجيشين المحتربين بما يكون فيهما أو فى أحدهما من كثرة القتلى والجرحى، ومن الخطط التى يتخذها القواد للهجوم والدفاع، وما يكون لهذه الخطط من نجح أو إخفاق. فأما إحصاء القتلى والجرحى والغرقى — إن اضطر الجيش المنهزم إلى عبور نهر أو قناة — وإحصاء المنهزمين، بل إحصاء الجيوش نفسها قبل أن تلتقى وحين تلتقي، فشيء لا سبيل إليه، ولا سيما بالقياس إلى الأحداث التى كانت فى العصور القديمة حين لم يكن هناك إحصاء دقيق، وحين لم يكن للناس علم بمناهج البحث والاستقصاء وتحقيق أحداث التاريخ.
وقدماء المؤرخين من العرب لم يعرفوا من أمر هذه الأحداث الكبرى إلا ما تناقله الرُّواة من العرب والموالي، فهم إنما عرفوا تاريخ هذه الأحداث من طريق المنتصرين وحدهم، بل من طريق الذين لم يشهدوا الانتصار بأنفسهم، وإنما نُقِلت إليهم أنباؤه نقلًا أقل ما يمكن أن يُوصَف به أنه لم يكن دقيقًا، وهم لم يسمعوا أنباء هذا الانتصار من المنهزمين بين فُرْسٍ ورومٍ وأممٍ أخرى شاركتهم فى الحرب وشاركتهم فى الهزيمة، فهم سمعوا صوتًا واحدًا هو الصوت العربي.
وأيسر ما يجب على المؤرخ المحقق أن يسمع أو يقرأ ما تحدَّث به أو كتبه المنهزمون والمنتصرون جميعًا.
والأحداث الكبرى التى كانت أيام الشيخين خطيرة فى نفسها، تبهر الذين يسمعون أنباءها أو يقرءونها، فليست فى حاجة إلى أن يتكثر فى روايتها المتكثرون، ولا إلى أن يحيطها الرواة بما أحاطوها به من الغلو والإسراف؛ فردُّ العرب إلى الإسلام بعد أن جحدوه، وإخراج الروم من الشام والجزيرة ومصر وبرقة، وإخراج الفرس من العراق والقضاء على سلطانهم فى بلادهم؛ كل هذه أحداث لا سبيل إلى الشك فيها ولا فى وقوعها فى هذا العصر القصير أثناء خلافة الشيخين، وهى أحداث تصف نفسها وتدل على خطورتها وليست محتاجة إلى المبالغة فى وصفها؛ لأنها فوق كل مبالغة، مع أنها حقائق لا معنى للشك فيها.
من أجل هذا كله، أعرض عن تفصيل هذه الأحداث كما رواها القدماء وأخذها عنهم المحدثون فى غير بحث ولا تحقيق.
وأنا أعتقد أن المؤرِّخ حين يقول: إن عصر الشيخين قد شهد انتصار المسلمين على الروم، وقضاء المسلمين على دولة الفرس، قد قال كل شيء، وسجل معجزة لم يعرف التاريخ لها نظيرًا.
أنا إذن لا أُملى هذا الحديث لأثنى على الشيخين، ولا لأفصل تاريخ الفتوح فى عصرهما؛ وإنما أريد إلى شيء آخر مخالف لهذا أشد الخلاف، أريد أن أعرف وأن أبيِّن لقارئ هذا الحديث شخصية أبى بكر وعمر — رحمهما الله — كما يصورها ما نعرف من سيرتهما، وكما تصورها الأحداث التى كانت فى عصرهما، وكما يصورها هذا الطابع الذى طبعت به حياة المسلمين من بعدهما، والذى كان له أعظم الأثر فيما خضعت له الأمة العربية من أطوار، وما نجم فيها من فتن.
ويقول الرواة: إن عمر قال عن أبى بكرٍ: إنه أتعب مَنْ بعده. وليس من شك فى أن عمر كان أشدَّ من أبى بكر إتعابًا لمن جاء بعده؛ فسيرة هذين الإمامين قد نهجت للمسلمين فى سياسة الحكم، وفى إقامة أمور الناس على العدل والحرية والمساواة نهجًا شقَّ على الخلفاء والملوك من بعدهما أن يتبعوه؛ فكانت نتيجة قصورهم عنه — طوعًا أو كرهًا — هذه الفتنة التى قُتِلَ فيها عثمان رحمه الله، والتى نجمت منها فتن أخرى، قُتِلَ فيها على رضى الله عنه، وسُفِكت فيها دماء كثيرة كره الله أن تُسفَك، وانقسمت فيها الأمة الإسلامية انقسامًا ما زال قائمًا إلى الآن.
هذا النهج الذى نهجه الشيخان — والذى قصر عنه بعدهما الخلفاء والملوك — هو الذى أريد أن أعرفه وأجلوه لقارئ هذا الحديث، وأستخلص منه بعد ذلك شخصية أبى بكر وعمر رحمهما الله.
ولا أذكر عُسر هذا البحث، ولا ما سأبذل فيه من الجهد، وما سأتعرض له من المشقة، وما سيعرض لى من المشكلات؛ فكل من يحاول مثل هذا البحث لا بد من أن يوطن نفسه على كل هذا العناء، ومن أن يستعين الله عليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة