"أنتم الأقواس التي منها ينطلق أطفالكم سهامًا حية".. كلمات جبران خليل جبران؛ مناسبة جدًا لهذا المشهد الذي تظهر فيها الوليدة الصغيرة ذات الثلاثة أيام، في فراشها الصغير بعد انفجار بيروت المروّع، تحاول أن تحرك رأسها ولكنها تفشل، فتسكت ولا تتحرك أو حتى تحاول أن تركل الهواء بقدميها الصغيرتين؛ إنها حتى لا تبكي كما يفعل عادة الأطفال حديثو الولادة، بل أمها بجوارها هي التي تبكي، فيما يربت أبوها على كتفها، فالحالة برمتها ليست عادية، أتساءل: ما مصير هذه الصغيرة إن عاشت، هل ستعتاد الحياة بين انفجار وآخر، هل ستتعايش مع عنف لا يتوقف، أم ستكون -حاشا لله- إحدى سهامه، وصغيرة أخرى انتشلها رجال الدفاع المدني من تحت الركام، وجورج ابن إدمون وإيمانويل الذي ولد أثناء الانفجار والغبار يغطي والدته وغرفة الولادة، فضلاً عن إصابة بعض من الفريق الطبي، سيظل جورج ابنًا من أبناء الانفجار، سيلتصق باسمه شاء أم أبى، كذلك سيكون الرضع الثلاثة التي حملتهم إحدى الممرضات محاولة تهدئة روعهم، هذا غير هؤلاء الصغار الذين سجلت لهم عائلتهم بالمصادفة فيديو لحظة الانفجار وتطاير زجاج المنزل وهم يصرخون: "لا نريد أن نموت".
شيء من هذا القبيل يستدعي ما كتبه الصحفي الأمريكي روجر روزنبلات بمجلة تايم الأمريكية في العام 1982 عن إرادة البقاء لدى أطفال الحرب في لبنان والتي تمثلت برغبة في الثأر وبصمود هاديء ورزين، حسب قوله ووصفه بأنه أحيانًا كانت الدموع تنساب مع الكلمات، وأحيانًا كان الأطفال يسترسلون أبشع أنواع الرعب ببرود شديد، مستشهدًا بأربعة أطفال فلسطينيين ولبنانيين لم يعرفوا خلال سنوات عمرهم القليلة سوى الحرب والقصف والانفجارات، مثل صديقتي الجنوبية "سهى" التي ظلت طوال سنوات طفولتها، حين يطلبون منها في مدرستها أن ترسم لبنان، كانت تختصره في أسرة مكونة من أب وأم وأبناء، كل منهم بأطراف مبتورة؛ إما ذراع أو ساق، كنت أظن أن الأجيال الجديدة التي ولدت بعد انتهاء الحرب الأهلية وخروج اسرائيل، سيكون لديها مشاعر مختلفة حتى حدث العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، حين اتصلت أطمئن على صديقة لي، فجاوبتني طفلتها الصغيرة ذات الخمس سنوات بسؤالها المذهل: ليش بتسألي عن الحرب عندنا، ليش ما في حرب عندكن؟!
الصور كذلك الآن لا تختلف عن الماضي كثيرًا، إنها حقيقية ولها وجه واحد أن كل هؤلاء أبناء بلد منقطع النظير، منذور بالمشقة والوجع، بيروت مدينة مفتوحة كما عنوان الفيلم الإيطالي الشهير "روما مدينة مفتوحة" (1945) إخراج روبرتو روسيليني (1906 - 1977)، مفتوحة على المقاومة ومزيد من الفتك والدم، دخل اللبنانيون مرحلة جديدة أكبر من هواة الرثاء أو غيرهم من معتادي العيش على أنقاض الخراب، فالدمار اللبناني الحالي حطم قبل البحر والبر؛ نفوسًا وأرواحًا لأبرياء سقطوا هنا وهناك، كان على أجسادهم أن تكون قربانًا لجريمة جديدة تضاف إلى جرائم تخضبت بها الذاكرة ولا يمكن نسيانها، "هيروشيما لبنان" أو "تشيرنوبيل لبنان"، حسبما تداولتها وسائل الإعلام، موجزة حالة مدينة تحولت معالمها إلى أطلال وشعب عاش وما زال خيبات لا تضاهي، جعلت بعضهم يطلب من الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته، المطلب الغريب بعودة الانتداب الفرنسي!!
لبنان صور وحكايات أكبر بكثير مما وثقه مثلاً مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون وغيرهم، ومن هذه النقطة ناداني جرح قديم في صبرا ذات زيارة؛ فذهبت إليه، والجرح هناك يصعب مداراته؛ لأن حي صبرا واقعيًا ومجازًا نقطة تواصل راسخة بين بيروت العاصمة الجميلة البراقة وبين ضاحيتها الجانبية، المسافة على الخريطة ليست كبيرة؛ لكنها في الواقع تقاس بحجم الفارق بين أحياء العاصمة الساطعة وحي هو مأوى للفقراء واللاجئين، تحول الحي من حاضن للمقاومة الفلسطينية وعنوانًا للمذبحة القديمة التي ارتكبها الصهاينة في العام 1982، إلى مثوى لكل المنهكين الفارين من جغرافيا بلادهم، تبدل معنى اسمه من انتمائه لعائلة صبرا المعروفة، إلى اشتقاقه من معاني الصبر الذي يعيشه سكانه بتنوعه الذي يتوزع ما بين فلسطيني، سوري، سوداني، مصري وغيرهم، لا يأبهون سوى بالحصول على لقمة العيش، يعملون في السوق الشعبية المفرودة بإهمال وإغفال على طول الشارع وفي أرجاء الحي، أو في مهن أخرى خارجه، كهؤلاء المصريين الذين قابلتهم صدفة على الطريق، من ميت غمر وكفر الشيخ وقرى مصرية أخرى، بعضهم سافر إلى لبنان هربًا من الحدود السورية أو الأردنية عن طريق سماسرة التهريب، يعملون في المطاعم ومحطات الوقود أو عمال باليومية بأجر يومي داخل المخازن لمدة 12 ساعة دون بدل إضافي، كثير منهم ليس لديهم مكانًا للمبيت وإن وجدوا فيسكنون أكثر من عشرة أفراد في شقة صغيرة في صبرا أو أماكن مماثلة وربما في عمارات تأثرت برصاص وقذائف الحروب المتوالية.
ثلاثة مصريون حسب التقارير الإخبارية كانوا من ضحايا الانفجار البيروتي، الحدث الصاعق لم يفلت منه أحد؛ فلم يصب اللبنانيون فقط وإنما كل من يعيش في بيروت، نحو 43 سوريا أعلنت السفارة السورية وفاتهم لتتسع قائمة الضحايا ويضحى ما بين 250.000 و300.000 شخص بلا مأوى تلاحقهم أشباح الماضي ويعبئهم الخوف، هل كلهم ضحايا؟ نعم، كلهم ضحايا صناع الموت الذين لا يخجلون منهم؛ إذ يتركونهم كالعادة عطشى للأمل في خلاص وختام سعيد لا يحدث، ضحايا بلد يخشى أن يكون وطناً؛ أو بالأحرى يحيلونه إلى سوق مفتوحة على الهلاك إلا لماماً بأصوات تخرج من التباريح تصرخ: إذا كان لابد من وطن، فليكن كاملاُ، وإن كان لابد من حلم فليكن حاضراً بلا أثقال الماضي والحاضر، وإن كان من أمنية فلتكن كلمات محمود درويش: تصبحون على وطن".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة