القارئ أشرف السيد يكتب: ترويض الملل

الخميس، 16 يوليو 2020 09:11 ص
القارئ أشرف السيد يكتب: ترويض الملل الاكتئاب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تناولنا فى مقال سابق إشكالية الألم والملل ومعاناة الإنسان الدائمة منهما، وتأرجحه بينهما "كالبندول" بحسب تعبير الفيلسوف الألمانى شوبنهور، وكيف عالجت الفلسفات والثقافات والديانات المختلفة هذه الإشكالية المزدوجة من خلال الوسائل المعروفة كالصلاة والتأمل والخشوع والعمل على طهارة للنفس والقلب وغيرهما.

ولما كان الملل هو بيت الداء ومصدر كل البلاء كما وصفته الأديبة الأمريكية اديث وارتون، فضلا عن أنه عنوان هذه المرحلة التى نمر بها بسبب كورونا اللعين، فقد ارتأينا الغوص أكثر فى أعماق الإنسان بحثا عن الآلية التى يعمل بها الجسد أو ما يسمى بالكمياء الحيوية Biochemistry          التى تؤدى إلى إنتاج هذا الشعور السلبى ومن ثم الوسائل المطلوبة لضبطها والتحكم، بها بما يسهم فى ترويض هذ الوحش الذى يجثم دوما على صدورنا ويكتم أنفاسنا.

وبالبحث العميق الدؤوب فى هذا الشأن برزت لنا كلمة "الدوبامين" وهى مادة حيوية يفرزها الدماغ كناقل عصبى للإشارات بينه والجسم، وتلعب هذه المادة دورا رئيسيا للتحكم فى كل ما يقوم به الشخص من استجابات شعورية.

ويعد توازن هذه المادة - المعروفة بهرمون السعادة - فى الجسم أمرا حيويا للصحة البدنية والنفسية والعقلية ويؤدى نقص هذه المادة فى جسم الإنسان إلى مشاكل كبيرة من أبرزها الملل وأخطرها الاكتئاب، ويعد الإدمان من الأسباب الرئيسية التى تؤدى إلى خلل فى إفراز تلك المادة الحيوية، ومن ثم المعاناة من مختلف المشكلات النفسية، والإدمان هو اضطراب يحدث فى الدماغ فى منطقة إفراز مادة الدوبامين، وهى المنطقة المتعلقة بنظام المكافآت التى يحصل عليها الإنسان نتيجة تعلقه بأى شىء سواء كان مادة أو شخص أو سلوك.. أو غيرها.. فالوجبات الغذائية المشبعة بالسكر والدهون على سبيل المثال من أكثر الأسباب الشائعة للإدمان، وكما أن المخدرات والكحوليات والتبغ وغيرها من المدمنات التقليدية فإن وسائل التواصل الاجتماعى أيضا من المدمنات الحديثة التى تؤثر على مستوى الدوبامين بالسلب وتؤدى إلى إتلاف وتثبيط الغدد المسئولة عن إفراز هذه المادة المهمة والحيوية.

وإذا كان الأطباء يعالجون الخلل فى ذلك بالأدوية و العقاقير بما لها من اثار جانبية فان من الوسائل الطبيعية التى تسهم فى رفع هذا الهرمون؛ تغير نمط الحياة باستبدال الكسل بالنشاط والنظام الغذائى غير الصحى بالأنظمة الصحية وغيرها.

ويعد الصوم من أفضل الوسائل لعلاج هذا الخلل والمقصود بالصوم هنا ليس الصوم الشائع بالامتناع عن الطعام والشراب، بل ما يعرف بصوم "الدوبامين" حيث ينصح بتحديد يوم أسبوعيا، على سبيل المثال، لامتناع الشخص عن كل ما يعتاده ويقدم عليه بنهم.. ولا شك أنه من المتوقع أن يعانى الإنسان خلال هذا اليوم من الملل، وهذا هو بيت القصيد حيث المطلوب منه أن يدرب النفس على التعايش مع الملل، بفطامها عن ما يستهويها من ملهيات ومشهيات، وينصح علماء النفس بأن يقوم الشخص خلال هذا اليوم بعمل كل ما يقوم بتأجيله أو تجنبه رغم فوائده باعتباره ممل  كممارسة الرياضة أو قراءة الكتب أو إنهاء أعمال مؤجلة.. المهم هو الابتعاد عن كل الملهيات والمشهيات المعتادة خلال هذا اليوم .. فقد ثبت أن اتباع هذه النصائح يسهم بشكل كبير فى إعادة ضبط إفراز الدوبامين فى الجسم الذى اعتاد على الحصول على جرعات كبيرة منه كمكافأة من خلال القيام بجهد قليل و سريع ، و الذى سرعان ما يتبدد ليشعر الانسان بالحاجة الى المزيد منه وهكذا يدور الانسان فى دائرة مفرغة توقعه فى المعاناة الدائمة  من الملل , بينما "صيام الدوبامين" من شانه تعويد الجسم على الحصول على المكافاة المؤجلة و هى الأهم و الأكثر فائدة من المكافأة العاجلة ، و هنا يحضرنى  تلك التجربة  التى اجراها عالم النفس الأمريكى والتر ميشيل بجامعة ستانفورد و المعروفة بتجربة "مارشملو ستانفورد" Stanford Marshmallows Experiment, و "المارشملو" هى تلك الحلوى اللذيذة المحببة للأطفال، وتتلخص هذه التجربة فى وضع عدد من الأطفال كل منهم فى غرفة منفصلة و معه قطعة من هذه الحلوى و الطلب منهم بالامتناع  لمدة 15 دقيقة عن تناول هذه الحلوى مقابل قطعة إضافية.. وبعد الانتهاء من هذه المدة كان بالفعل عدد من الأطفال قد امتنعوا ونالوا المكافأة فيما فشل البعض الآخر وتناولوا القطعة المتاحة مع التضحية بالمكافأة المؤجلة.

وقد تمت متابعة هذه العينة او المجموعة لمدة 30 عاما فتبين ان الأطفال الذين صبروا و نالوا قطعة الحلوى المؤجلة كانوا فى شبابهم اكثر نجاحا و أصحاب مستقبل مبهر، على عكس الأطفال الذين لم يصبروا وفشلوا فى مقاومة رغباتهم، حيث كان هؤلاء أكثر تخبطا وفشلا فى حياتهم المستقبلية.

الخلاصة التى نخرج بها من هذه التجربة المتميزة ان الحياة ليست سهلة كما يتصورها البعض فقد خلق الله الانسان فى كبد وفى سبيله إلى احتمال هذا الكبد (الالم والملل) لا مناص من  ترويص النفس، بأن يدرب الشخص نفسه على ضبط نظام المكافأة فى دماغه (دوبامينه)، او بعبارة أخرى مقاومة ما يحب و تحمل ما يكره, فالمؤكد "ان الصبر على المكاره يثمر شجرة المكارم..".

"واصبروا إن الله مع الصابرين" صدق الله العظيم.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة