يستقر الرأي في الفقه والقضاء علي أن الدليل الكتابي ولو حملته أوراق رسمية لا يحظى بحجية معينة في الإثبات أمام القاضي الجنائي، فله أن يأخذ به أو يطرحه تبعا لاطمئنانه له من عدمه، وذلك عملا مبدأ حرية الإثبات الجنائي، وهو الأمر الذي يطرح معه العديد من الإشكاليات في هذا الشأن.
وكثيرا ما يدفع المتهمين بانقطاع صلتهم بالجريمة، وذلك لعدم تواجدهم علي مسرحها لحظة ارتكابها، وأن شهود الإثبات كاذبين حينما قرروا رؤيتهم للمتهم في محل الواقعة يباشر نشاطه الإجرامي، أو لبيان عدم صدق رواية الضابط بأنه ضبط المتهم في زمان ومكان معين، أو تدليلا علي حصول الضبط والتفتيش قبل صدور الإذن، ويعزز المتهمين الدفع بأوراق رسمية تفيد تواجدهم في زمان الجريمة في مستشفي عام أو مصلحه حكومية أو برقيات تلغرافية مرسلة من أهلية المتهم تضررا من ضبط المتهم في زمن سابق علي صدور الإذن، وغيرها من الإجراءات.
قيمة الورقة الرسمية كدليل نفي في القضايا الجنائية
في التقرير التالي، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية في غاية الخطورة تتعلق بعملية الدليل والإثبات الجنائي المقرر بالورقة الرسمية حيث تخلق هذه الورقة الرسمية العديد من الإشكاليات القانونية بين عدد من القضاة حيث هناك من يأخذ بها وقضاة آخرين يرفضونها، وذلك يعود لمدى اطمئنان المحكمة لهذه أو تلك الورقة الرسمية – بحسب أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق.
في البداية – علينا أن نعلم أن محاكم الجنايات غالبا ما تهدر تلك الأوراق رغم رسميتها بقالة أنها لا تطمئن إليها دون بيان السبب، بل أن بعض المحاكم تلتفت عنها مطلقا وتعتبرها نسيا منسيا، وقضاء النقض فى كثير من الأحيان يبارك هذا الاتجاه بجناحيه، بسند أنه لا حجية للأوراق الرسمية أمام القاضي الجنائي، إذ له أن يهدرها أو لا يأخذ بها ما دام لم يطمئن إليها دون أن يكون ملزم ببيان علة اطرحها مادام أنه رائي أنها لا تلتئم مع الحقيقة التي استخلصها من أقوال شهود الإثبات وخلافه – وفقا لـ" فاروق".
حرية القاضي الجنائي في الإثبات وسلطته في تقدير الدليل
وذلك كله عملا بحرية القاضي الجنائي في الإثبات وسلطته في تقدير الدليل، بل إن محكمة النقض اندفعت في بعض الأحكام وقررت أن الحكم يكون في حل من التعرض للأوراق الرسمية التي تمسك بها المتهم مادام أنه من حقه ألا يأخذ بها، ورفضت تبعا لذلك نعي المتهمين بالإخلال بحقهم بالدفاع، وذلك لأن محكمة الجنايات أغفلت الرد علي ما تمسكوا به من مستندات، وفي ذلك تقول محكمة النقض أن الأدلة فى المواد الجنائية إقناعية، وبالتالي فإن لمحكمة الموضوع أن تلتفت عن دليل النفي ولو حملته أوراق رسمية، وذلك طبقا للطعن المقيد برقم 3175 لسنة 86 ق جلسة 16 أكتوبر 2016.
وترى محكمة النقض أنه لا يحد من سلطة محكمة الموضوع في هذا الشأن سوي أن تقيم الأدلة على مقارفة المتهم للجريمة التي دين بها، لأن ذلك يفيد ضمناً أنها لم تأخذ بدفاعه ومن ثم فإن ما يثار من أن الحكم التفت عن المستندات التي قدمها المتهم للتدليل على استحالة الرؤية فى مكان الحادث وزمانه بسبب الظلام لا يعدو أن يكون جدلاً موضوعياً فى تقدير الدليل وفى وزن عناصر الدعوى واستنباط معتقدها وهو ما لا يجوز إثارته أمام محكمة النقض، ويميل الفقه إلي ترديد أحكام النقض علي أنها التطبيق السليم للقانون.
لماذا على محكمة الموضوع الأخذ بالأوراق الرسمية؟
ونعتقد أن ما تواترت عليه أحكام النقض في هذا الشأن محل نظر، وذلك لأنه ولئن كان لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تقدير أدلة الدعوي، فإن ذلك لا يسوغ تحرر محكمة الموضوع من الرد علي دفاع المتهم المعضد بمستندات رسمية، وإلا كان الإخلال بحق الدفاع قائم، ولا يستقيم قول استفادة الرد من سرد أدلة الثبوت في الدعوي، إذ قصد المتهم من دفاعه تكذيب تلك الأدلة ولا يجوز مصادرة حقه في هذا الشأن قبل أن ينحسم أمره بالارتكان إلي الأدلة التي حاول دحضها من خلال المستند الرسمي، وإنما يلزم دوما علي محكمة الموضوع أن تعرض للمستندات الرسمية وتقول كلمتها فيها بأسباب سائغة يحس المطلع من قراءتها أن المحكمة ألمت بوقائع الدعوي وظروفها ودفاع المتهم المعضد بالمستجدات عن بصر وبصيرة فساورها الشك في صحتها.
أما أن تهملها تماما - وكأنها غير موجودة ثم تقول النقض أن ذلك شأن محكمة الموضوع، وذلك لأن من حقها ألا تأخذ بالمستند الرسمي أو أن سرد أدلة الثبوت يفيد ضمنا الرد علي المستند، فهذا قلب للأوضاع ومصادرة لدفاع المتهم ولا يستقيم مع مبادئ المحاكمة المنصفة التي اشترطها الدستور، والواقع أن حرية القاضي الجنائي في تقدير أدلة الدعوي وطرح ما لا يطمئن إليه منها لا يتأتي معه إهدار مستند رسمي تمسك به المتهم دون بيان السبب أو استفادة السبب ضمنا من عدم التئام المستند مع الحقيقة التي استخلصها الحكم، وذلك لأن تلك الحقيقة ما هي إلا وجهة نظر سلطة الاتهام التي حملت الدعوي إلي قضاء الحكم وقد نازع المتهم في هذا الاتهام ودحضه من واقع الأوراق الرسمية ومن حق المتهم معرفة أسباب عزوف المحكمة عن دفاعه ومن واجب النقض أن تراقب محكمة الموضوع في هذا العزوف وما إذا كان له ما يبرره من عدمه من واقع أسباب الحكم.
الفرق بين حجية الورقة فى القانون المدني والجنائي
ولا ندري كيف هان علي محكمة النقض أن تضعف من قيمة الأوراق الرسمية علي هذا النحو في المواد الجنائية ولا تبدي بشأنها أي اهتمام رغم أن قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية يضفي على تلك الأوراق حجية مطلقة في الإثبات ولا يقبل إثبات عكسها إلا بالطعن بالتزوير، بل إن محكمة النقض لم تقدم سند مقنع يبرر المغايرة بين قيمة ذات الورقة الرسمية أمام القضاء المدني ونطيره الجنائي، ولا يعترض بمبدأ حرية القاضي الجنائي في الإثبات لأن هذا المبدأ لا يعني تحكم القاضي بإهدار ورقة أضفي القانون حجية عليها دون بيان السبب، ولا ندري كيف يكون لذات الورقة حجية في المواد المدنية وتتجرد من تلك الحجية في المواد الجنائية؟ أليس من شأن ذلك أحداث خلل في النظام التشريعي ككل؟ أليس من شأنه ذلك أن يؤدي إلي التضارب بين الأحكام المدنية والجنائية؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة