يستعد الكاتب طايع الديب لـ صدور كتابه الجديد بعنوان "الكروان الممنوع، الذى يتناول قصة الشيخ "عنتر مسلم، وننشر فصلا من الكتاب قبل إصداره:
عنتر مسلّم.. حكايات تُنشر لأول مرة مع مصطفى إسماعيل والشيخ الطبلاوى
لم يظهر الشيخ عنتر مسلّم من فراغ، أو فى الفراغ، كما يزعم بعض المتعصبين من جمهوره، بل ظهر أيام كان "المعهد الأحمدى" جامعة مرّ عليها عشرات العلماء والمقرئين الكبار، من بينهم الشيخ محمد متولى الشعراوي، والدكتور جاد الحق على جاد الحق، والدكتور عبد الرحمن بيصار. ومن مشاهير القرّاء: محمود خليل الحصرى ومحمد عبد العزيز حصّان وراغب غلوش، وغيرهم.
وحكى مسلّم موقفا حدث له سنة 1956 مع مصطفى إسماعيل، "قارئ الخاصة الملكية" سابقا، قال مسلّم: وقتها كان عندى 20 سنة، وجاءنى طلب لإحياء ليلة عزاء فى مدينة السنطة، وقتها كان معى رفيق طريق يوصلنى على ظهر حمار إلى مكان العزاء، الذى وصلته تحت شمس الظهيرة الحادة وكنا فى عز الصيف. وبعد العصر، حضر فضيلة الشيخ مصطفى إلى السرادق فى سيارته "الفورد" الزرقاء المشهورة، وفتح له السائق الباب، فنزل بكل وقار كما أبلغنى من حولي، وتبعه سائقه خطوة بخطوة حاملا الشمسية، حتى وصل إلى أول السرادق. وصافح مولانا الشيخ بعض الحاضرين من كبار الأعيان وأهل المتوفى، وانتظرت أن يأتى ليصافحنى بينما كنت جالسا على دكة القراءة، وأعتبر نفسى "زميلا"، لكنه لم يفعل، فاعتبرت ذلك تجاهلا غير مقبول بالمرة لقارئ مغمور مثلى.
وأكمل مسلّم حكايته قائلا: بدأ فضيلة الشيخ مصطفى القراءة أولا، باعتباره الأكبر سنا والأكثر شهرة، فقرأ الربعيّن الأول والثانى من سورة الأنفال، وصدّق عند أول الربع الثالث، من قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء) الآية 41 من السورة. ولمّا جاء دورى فى القراءة بدأت من حيث انتهى، أى من الآية التى صدّق بها، وأخذت عشر دقائق قراءة تسخين، ثم رحت أُعيد الآيات، وأُركّب القراءات، فى كل مرة بأداء مختلف، فقد كنت شابا عنيدا وقتها، وكان لدى شيء من كبرياء الشباب أنكره الآن!
وتابع الشيخ: قرأت 3 أرباع من سورتى "الأنفال والتوبة" فى حوالى ساعة ونصف، وسرت فى الحاضرين أثناء ذلك همهمات، تبعها هتافات استحسان، ووجدت تجاوبا كبيرا لم أشهده فى حياتى حتى ذلك الحين، إلى حد أن الناس اعترضوا عندما بدأت أختم القراءة، رافضين أن أتوقف لأفسح المجال لزميلى الكبير، لكنى أصريت على ختم التلاوة بعد 90 دقيقة، وكانت ملابسى كلها تقطر عرقا، ففوجئت بفضيلة الشيخ مصطفى يقوم من مكانه، ويأتى إلى بكل تواضع، ويقبلنى على جبهتى مبتهجا، ثم يقول لى بكل أريحيّة الفنان جملة لن أنساها أبدا: "سيكون لك يا بنّى طريق منفرد فى دولة التلاوة".
سر غضبة "الطبلاوي"
لم يشعر مسلّم أبدا بالدونية لكونه كفيفا، لم يتلق تعليما مدرسيا كافيا، بل على العكس من ذلك، فقد اصطبغت شخصيته منذ ظهوره بطابع الميل إلى التحدي، والسعى إلى إثبات الذات، الأمر الذى أدخله فى خلافات ومعارك مع بعض القرّاء المشهورين، ممن أوقعهم حظهم العاثر فى ليلة عزاء مع قارئ وصفه بعضهم بأنه "كالماء، إذا حضر فى أى محفل بَطُل التيممّ بغيره من القرّاء"!
ومن باب التحدى، أو إظهار التمكّن، كان الشيخ عنتر يبدأ القراءة دائما من الآية التى أنهى بها زميله قراءته، فيُكمل وراءه بالآية التالية مباشرة من السورة. وهو تحدٍ صعب يتطلّب القدرة على التلاوة من أى موضع فى القرآن، ما يدخل فى عداد المستحيلات تقريبا!
ومن المعلوم أن أى قارئ مهما بلغت درجة شهرته وتمكنّه، يُجيد قراءة تيسر له من آيات بعينها فى سور محددة، ويظل يتدّرب عليها فى خلواته حتى يتقنها تماما، وبالتالى يصبح مشهورا بهذا "الأرباع" فى أوساط الجمهور. ومع ذلك كان مطلوبا من مقرئين مشاهير مثل الطبلاوى ومحمود على البنا وأحمد الرزيقى وإبراهيم الشعشاعي، مجاراة مسلّم فى هذا الرهان المستحيل!
وتسبّب ذلك فى حدوث مشاحنات بينه وبين مشاهير القراء فى عصره، كما حدث ذات ليلة من ليالى السبعينيات حين كان يقرأ مع الشيخ الطبلاوي، بمنطقة "غيط العنب" فى الإسكندرية، بحضور حشد كبير من الجمهور والسميّعة.
والطبلاوى هو "القارئ العصامي" الأشهر فى دولة التلاوة، فقد كان الرجل فى مطلع حياته مؤذناً بسيطاً فى مسجد الشركة الشرقية للدخان "ماتوسيان" بالجيزة، وسمعه الإذاعى الراحل عمر بطيشة بالصدفة وهو يؤذن لصلاة الجمعة، فنصحه بأن يقرأ القرآن، ثم تبنّاه فنياً، وقدّمه إلى الأوساط الإعلامية والاجتماعية.
وهكذا بدأ الرجل رحلته إلى الشهرة، واستطاع بموهبته وحدها أن يضع نفسه فى مصاف الكبار، فأطلق عليه بعض المعلقين الصحفيين وقتها لقب "العبقرى الأخير"، بعد أن رفض عرضاً من محمد عبد الوهاب لتعلّم المقامات الموسيقية، قائلا إنه يقرأ بالسليقة وحدها، ولو تعلّم المقامات فلن يستطيع القراءة!
غير أن الطبلاوى الذى لم يتلق أى تعليم أزهري، كان مدرسيّاً بامتياز، فلم يمتلك الجرأة اللازمة لارتياد طريق التجديد. وبالنسبة إليه، كان السير فى الطريق السهل الذى عبدّه الآخرون فى دولة التلاوة أكثر أمناً وأموالاً، خاصة أنه أصبح بتزكية من كبار أئمة وزارة الأوقاف "قارئ السورة" فى الجامع الأزهر الشريف، لمدة 25 سنة.
ولأن الطبلاوي، وهو شخصية محورية فى هذا الكتاب، احتل هذه المكانة الفريدة "على ذراعه" كما يقول أولاد البلد، وبلا أى تعليم أكاديمى أو حتى أهلى على الأقل، فقد كان شخصاً قوى الشكيمة، حاد الطباع، بشكل قد لا يتفق وشخصية قارئ قرآن. وكان الرجل الذى زرته مرة واحدة لم تتكرر فى منزله، يعتقد أنه بما بلغه من صيت واسع لابد أنه يوضع بموهبته الخارقة وحدها فى صدارة معاصريه، ربما قبل عبد الباسط عبد الصمد والبنا ومحمد صديق المنشاوى وعنتر مسلّم، ظناً منه أن المسألة، مثل أى شيء آخر فى حياة سكان الأحياء الشعبية، "مسألة تراتبية" بحتة!
فى المقابل، كان الشيخ عنتر يغار من الطبلاوي، ويرى أنه وهو "المدرسي" الذى لم يجرؤ على اجتراح أى إبداع، والذى وصفه السعدنى بـ "العبقرى الأخير" ثم عاد وهاجمه (!)، بات أكثر شهرة وأموالاً منه، ولم يقطع عليه أحد الطريق، أو يعوق مسيرته، بل - على العكس- نال إعجاب كبارات البلد ومشاهير الفنانين والإعلاميين، خصوصاً عبد الوهاب "موسيقار كل الأجيال"، الذى حمل له مسلّم إعجاباً غريباً طول حياته.
ربما لهذا السبب، والله أعلم، درات بين الشيّخيّن الكبيرين مساجلات فنية كثيرة فى ليالٍ عامرة بمحافظات الدلتا، كان مسلّم يسعى خلالها إلى مشاكسة الطبلاوي، وبيان نقاط ضعفه أمام الجمهور، والقراءة بكل ما أوتى من موهبة وتمكّن لسحب البساط من تحته، وإشعال حماس الجماهير حتى طالبت ذات مرة بأن يستمر عنتر فى القراءة، ويتجاوز دور الطبلاوي، غير أنه رفض رفضاً قاطعاً، وأصرّ على أن يأخذ "مولانا الشيخ الطبلاوي" دوره!
وفى ليلة "غيط العنب"، بحضور الآلاف من سميّعة الإسكندرية والبحيرة وكفر الشيخ، بدأ الطبلاوى القراءة أولاً من سورة "الحجر"، وهى من السور الطويلة التى يتجنبها القرّاء لأنها صعبة الحفظ. وحينما أنهى قراءته بالتصديق، بدأ مسلّم الذى كان يجلس بجانبه من آخر آية قرأها. وهنا نزل الطبلاوى من الدكة محتجاً بشدة، وكاد أن يترك السرادق وينصرف غاضباً، لولا أن رجاه بعض السميّعة ألا يُفسد الليلة، فقال لهم: "الشيخ عنتر يريد إحراجى أمام هذا الجمهور الكبير، هو يحرج الجميع.. إنه واحد ضد الجميع"!
وعندما سُئل مسلّم عن رأيه بصراحة فى الطبلاوي، أثناء جلسة عُقدت فى منزل محمود خليل الحصري، حضرها عدد من كبار القرّاء منهم أبو العينين شعيشع وحمدى الزامل وراغب غلوش، قال الشيخ عنتر: "الطبلاوى على شيء كبير من الموهبة، لكنه ليس على شيء مساوٍ لها من الفن، فهو يقرأ على نغمة واحدة مثل الساقية الدوّارة"!
ولم يقرأ الشيخ عنتر أى سورة بنفس الطريقة مرتين فى حياته أبداً، وكان مثل "الملحن الفوري" الذى تمكنه موهبته من الإتيان بمقامات مختلفة فى كل مرة، لذلك كان محمد عبد العزيز حصّان يقول له دائما: "انت غير كل القرّاء يا شيخ عنتر، انت صوتك فى جيبك، تقدر تطلّعه وقت ما تحب"!
ومحمد عبد العزيز حصّان، صاحب هذه الشهادة، لم يكن بالقارئ العادى أيضاً، فهو الوحيد الذى كسرت من أجله الإذاعة المصرية قواعدها، القاضية بعدم بث أى قارئ كفيف على الهواء مباشرة، خشية أن يُخطئ. ولم يُخطئ "حصّان" خلال حفلاته المنقولة إذاعيا مرة واحدة طوال 35 سنة!
البنا.. "المعلم الثاني"
يقول مجدى الراعي، من سميّعة الشيخ عنتر: "فى يوليو سنة 2000، كان القارئ الراحل محمد الليثي، أحد أعلام القراء البارزين، مدعواً لإحياء ليلة عزاء فى قريتنا (حانوت)، فذكرنا أمامه نخبة من المقرئين الكبار، حتى إذا جاء ذكر مسلّم، الذى كان لايزال على قيد الحياة وقتها، قال الشيخ الليثى بالحرف الواحد: لم أتهيّب أى قارئ فى حياتى سوى القارئ الرباني، المتمكن، الشيخ عنتر. وكذلك كان جميع القرّاء بلا استثناء يتهيبون القراء معه فى أى محفل عام".
ومع ذلك، فإن هناك استثناءين فقط من هذه القاعدة، هما محمود على البنا وشعبان الصياد. كان مسلّم يقدّر البنا تقديراً كبيراً، ويطلق عليه لقب "الأستاذ" خاصة أنه ظل "قارئ السورة" بالمسجد الأحمدى لمدة 26 سنة، ما يؤكد جدارته باعتباره واحداً من كبار المقرئين المصريين. وكان الشيخ عنتر يسمّيه "المعلم الثاني" فى مدارس التلاوة الجديدة، بعد مصطفى إسماعيل.
كان البنا وقتها "صييّتاً" كبيراً من أعلام القرّاء، فقد بدأ مسيرته قبل أن يولد الشيخ عنتر، وكان يُدعى للقراءة فى المناسبات بالمسجد الأحمدى وعمره 12 سنة، حيث أطلق عليه السميّعة هناك "الطفل المعجزة"، لجمال صوته. والغريب أنه فشل - مثل مسلّم- فى استكمال دراسته الأزهرية، وكان يقول: "لقد فشلت فى الأزهر لكننى نجحت فى القرآن"!
ولدى حضوره إلى القاهرة فى العصر الملكي، كان "البنا" هو الوحيد الذى قرأ فى الإذاعة على الهواء دون أن يكون معتمداً إذاعياً، بأمر من أحد باشوات ذلك الزمان. وسجّل الشيخ بعد ذلك القرآن المرتل كاملاً عام 1967، بطلب شخصى من جمال عبد الناصر.
وشهدت ليالى الدلتا مباريات علنية بين البنا ومسلّم، حيث كان الشيخان يدخلان فى منافسة حامية أمام جمهور بالآلاف، ما أعطى هذه المباريات طابعاً احتفالياً فريداً فى تاريخ دولة التلاوة، إلى حد أن الشيخ عنتر كسر خلالها قاعدته التقليدية، وهى البدء من آخر آية قرأها زميله. وبلغ به التحدى الفني، أن قرأ نفس الآيات التى قرأها البنا من سورة "مريم"، فى عزاء بمدينة "المحمودية"، فاشتعل الناس طرباً. وتسامع الآلاف من أهالى الشوارع المجاورة بما يحدث، فتوافدوا إلى المكان.
واستمرت هذه المباراة القرآنية الفريدة فى تاريخ دولة التلاوة حتى الساعات الأولى من الصباح، فى حضور عشرات الآلاف. ويُقال إن الرئيس الراحل أنور السادات الذى كان سميّعا كبيراً، تحدث إلى ممدوح سالم وزير الداخلية وقتها، الذى كلف مأمور مركز شرطة المحمودية بتوفير الشرائط المسجلة فى هذه الليلة المباركة، على وجه السرعة.
وحكى مسلّم موقفا حدث له فى أحد العزاءات مع البنا، قال: "كنا فى سهرة، وكان مولانا الأستاذ الشيخ البنا يجلس بجانبي. وقبل أن أبدأ القراءة، التفت إلى البنا قائلا: "خد بالك، عمك قاعد"، فقلت له: حاضر يا مولانا.. بس "عمك" دى لغة محمود المليجى مش محمود البنا!
أما "الصياد" فكان صديق مسلّم الأثير من بين القرّاء، وهو القارئ الوحيد الحاصل على "عالِمية" الأزهر، وهى تعادل درجة الدكتوراه، وشغل منصب وكيل وزارة الأوقاف. وكان الصياد هو القارئ المفضل عند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ويُقال إن الرئيس طلبه بالاسم عام 1965، لإحياء عزاء والده.
ويقول القارئ عبد الحليم فايد: "حكى لى والدى أنه ذات ليلة فى منتصف السبعينيات، أحيا الشيخان شعبان الصياد وعنتر مسلّم محفل عزاء كبيرا فى إحدى قرى كفر الشيخ. وجاء الناس يومها من معظم المحافظات البعيدة، ليروا كيف سيتبارى الشيخان الصديقان، وقد كان. بدأ الصياد القراءة من أول سورة يوسف. ولمّا جاء دور مسلّم، أكمل من حيث انتهى زميله. وظل الاثنان يقرآن فى سورة يوسف حتى نهاية العزاء، وكأن الحفل سيمفونية يعزف كل منهما بطريقته جزءه المنفرد منها، وكانت ليلة من الليالى المشهودة فى كفر الشيخ، والتى يتذكرها السمّيعة القدامى حتى الآن".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة