هذا واحد من أعلام التنوير الإسلامي الذين قاموا بتحديث أفكار الإمام محمد عبده و رؤاه الإصلاحية، إنه الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894-1966) فقد أفنى حياته علما ونضالا فى سبيل تحديث الفكر الديني، وإعادة قراءة التراث بروح العقل والمنطق والنقد التاريخي وليس الاستلاب والاستسلام. وكان شجاعا في مواجهة الرافضين لتجديد المناهج الدينية، فترك لنا نحو 69 كتابا ودراسة علمية، تضاف إلى تراث الحداثة والتنوير فى الإسلام.
ومن بين تلك المؤلفات : كتابه الميراث فى الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية والوضعية الذي صدر عام 1934 وفيه يقول الصعيدي: "ان توريث أرشد الذكور وترك من سواه من الأقارب أمر ياباه العقل وذوق هذا العصر الذى يراد فيه أن تجعل المساواة بين الورثة لا فرق بين ذكور وإناث من أصول الميراث".
أما كتابه "الحرية الدينية فى الإسلام" الذي صدر عام 1955، فهو وثيقة معركة فكرية بين الشيخ الصعيدي والشيخ عيسى منون عضو هيئة كبار العلماء فى مسألة محل جدل بين الفقهاء وهي حكم المرتد فكان رده بعدم ثبوت قتل أو حبس المرتد، تأكيدا على أن الإسلام يدعو إلى حرية الاعتقاد.
ويصف الصعيدي مدرسة منون التراثية الشكلية التى تميل إلى ظاهر النصوص والنقل والجمود الفكري عن الاجتهاد والتفكير العقلي، فيقول: أن الشيخ عيسى منون إنما يجيد هو وأمثاله فهم العبارات المعقدة فى المتون، لأنهم يجدون شروحا ترشدهم إلى فهمها، ثم يجدون لها تقارير بعد الحواشي، وهى ما يسمونه بالكتب المخدومة، وقد الفوا هذه العبارات المعقدة حتى صار المعقد عندهم سهلا وصار السهل معقدا، لأنه ليس على أسلوب المتون التى ألفوها ، فليس له شرح يرشدهم إلى فهمه، وليس له حواش ولا تقارير توضحه".
فقد أفتى الشيخ منون بقتل المرتد إن أصر على ردته، يتولاها ولي أمر المسلمين، ومنها التفريق بينه وبين زوجته٠ مبينا أن هذا من الأحكام التي لا اجتهاد فيها.
وقد رد الصعيدي على منون بالأدلة العلمية ومنها: أن الحديث الذي ورد في بيان أن المجتهد له أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ، وأن المجتهدين من الأئمة الأربعة قد ظهروا بعد جيلين من الصحابة والتابعين، فلم يروا الحجر على أنفسهم في الاجتهاد
بعد من سبقوهم من اولءك المجتهدين، ولم يحرموا على أنفسهم مخالفتهم كما يحرم علينا مثل هذا الان الشيخ عيسى منون.
استنبط الصعيدي حكم المرتد لا يقتل من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى النهي عن قتل امرأة مرتدة وقال: "ما كانت هذه لتقاتل" أى أن القتل لأنهم مقاتلون، لا لأنهم مرتدون، أو لأسباب سياسية ومنها ان جزيرة العرب وطنا خالصا للمسلمين. حتى يقضى على أسباب الفتن فيها ولا يعود الخلاف بين قبائلها إلى مثل ما كانوا عليه فى الجاهلية. وهذا يعني أن القتال للرد على قتالهم لا لاكراه الناس على الإسلام بالقتال.
وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى رواه عبد الله بن عمر "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ " فليس المراد بالناس فيه جميع الناس قطعا لأن اهل الكتاب لا يدخلون فيهم.
لقد قرأ الشيخ الصعيدي النصوص القرآنية من منظور تاريخي اجتماعي فبلاد العرب كانت فى حالة حرب، فكان من يرتد من العرب ينضم إلى من يقاتل المسلمين منهم.
أما دراسة الشيخ الصعيدي عن التقريب بين المذاهب الإسلامية ودراسة علم التوحيد، فقد قدم قراءة تحليلية نقدية لحديث "الفرقة الناحية" الذى تعتمده الفرق والمذاهب الإسلامية حتى يقيموا الخصومة فيما بينهم على أساس من الدين، لتكون خصومة مشروعة لا إثم فيها بل يثاب أصحابها عليها، واعتمد فى تحليله على متن الحديث وسنده أى رواية ونصا، فى رد بليغ وحجج قوية على دعاة الفكر الطاءفى المتعصب. الذين لا يؤمنون بالتعدد ولا يعترفون بالآخر المختلف معهم داخل الدين الواحد أو المذهب الواحد.
وفكرة الفرقة الناجية كما يقول الباحث على بن مبارك فِى دراسته المهمة عن الصعيدي : إن ثقافة التكفير تأسست على فكرة الفرقة الناجية، واحتكار الحقيقة دون بقية الخلق. ولذلك واجههم الشيخ الصعيدى من خلال سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى كان أسوة حسنة فى مجال الاختلاف الدينى والفكري.
لقد أراد الشيخ عبد المتعال الصعيدي أن يثبت للعالم أن الإسلام هو دين العلم والمدنية، و التفكير النقدي واعمال العقل، و ليس دينا يدعو إلى الركون للقديم والتكاسل عن الاجتهاد.
إن الدعوة للتنوير والحداثة لا يمكن أن تكون ابدا لهدم دين من الأديان، كما يتوهم بعض الأصوليين الراديكاليين، فبدلا من أن ندفن رؤوسنا فى الرمال او نقف فى موقف المدافع عن التقليد بدعوى الغزو الفكرى أو المصطلح الوافد، علينا أن نعيد نشر وقراءة وتحليل أعمال رواد التنوير الإسلامي، لنعود كما كنا أمة الفارابى والكندى وابن رشد وابن سينا وابن الهيثم وابن طفيل وغيرهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة