تبدو لى مباراة جيدة للغاية على مستوى الأداء بين نجوم مسلسل "البرنس" قصة وسيناريو وحوار وإخراج "محمد سامي، والذى برع كمخرج محترف فى تحريك الكاميرا وتوجيهها نحو زوايا كاشفة لما يمكن أن يدور فى عمق النفس البشرية التواقة للشر والبغض والكراهية بين الأشقاء السبعة الذين يشكلون قوام قصة تقترب فى فحواها من حكاية "سيدنا يوسف - عليه السلام" مع إخوته، حين كادوا له بسبب حب أبيه له دون سائر إخوته.
التناقض الرهيب ودوافع الغيرة والحقد الذى رصده السيناريو بين الأشقاء ربما دفع الممثلين إلى الإجادة كل فى دوره، فهنالك الشخص المريض بجنون العظمة "فتحي" الذى يتبع نزواته وتعويض جزء من النقص الذى لازمه طوال الوقت جراء عقمه وعدم تمكنه من الإنجاب، وهناك الأخ الأكبر "عبد المحسن" المنسحق أما زوجته "الراقصة" فى خنوع غير مبرر، والأخ المعجون بخبث وشيطنة "ياسر" رغم قامته الطويلة، والأخ الصغير "عادل" اللى هى فى ملكوت عالم المخدرات والإنترنت، فضلا عن الأخت الشرسة التى يصعب ترويضها كنمرة شاردة "عبير" والأصغر منها الهادئة والرومانسية فى طباعها "نورا" التى تدرس الهندسة، وكل هؤلاء فى مقابل"رضوان" الطيب الحنون، سر أبيه وعصب تلك العائلة التى تواجه عواصف وأنواء على أثر غياب الأب "حامد البرنس".
ورشة "الدوكو" مسرح الأحداث التى تشهد مفارقات مذهلة من جانب الأخوة الستة - عدا "نورا" - تنطلق من بين جدرانها نار الضغينة التى يزيد اشتعالها يوما تلو الأخر، بفعل تصرفات مجنونة من جانب بعض منهم، وكأن بذور الشر قد وضعت فى النفوس بفعل شيطانى رجيم، لكن الشرارة الكبرى تنطلق بعد وفاة الأب "حامد البرنس"، والذى كان يملك دوما إمكانية كسر شوكة أبنائه ومنع أى منهم من الجنوح نحو ارتكاب أفعال مشينة يمكن أن تنال من هذا التكوين الأسرى المفكك بتناقضاته، ويحاول "رضوان" دوما رأب الصدع الذى يعتريه بين الحين والآخر من جانب إخوته، ولديه شعور دفين بمسئولية ألقى بها الأب قبل الرحيل على عاتقه رغم أنه ليس كبيرهم.
على قدر نمطية القصة التى سبق وأن عولجت بطرق مختلفة وأعمال أكثر اختلافا إلا أن "محمد سامي" صنع توليفة درامية - كما يبدو من الحلقات السبعة الأولى - ونتمنى أن تستمر - متقنة إلى حد كبير على مستوى إدارة الصراع وتوظيف الدراما فى خدمة الأحداث التراجيدية، وربما ساهمت التناقضات بين الأشقاء السبعة فى إحكام لعبة الصراع على إرث الأب الذى خلف نار الحقد على "رضوان" بعد أن كتبه باسمه، تماما كما فعل إخوة يوسف معه، وهذا الأمر الذى انعكس على الأداء باحترافية عالية من جانب "محمد رمضان" الذى اتسم بالهدوء والتحكم فى انفعالاته بصورة يحسد عليها هذه المرة، فلم يلجأ - حتى الآن - إلى نمطية الأداء، واستخدام التقنيات نفسها بما يخص الأداء الصوتى والجسمانى على عكس عادته فى التمثيل طوال السنوات الأخيرة.
ربما أدرك رمضان بعد وصوله إلى مرحلة النضج فى حياته الحالية أنه أصبح رقما صعبا فى معادلة التمثيل فى مصر والعالم العربي، وأن التكرار والاستنساخ أصبح مرفوضا لأنه يدعو إلى الملل، ولذلك فإن شعبية الممثل النمطى قد تتناقص يوما بعد يوم إلى أن يتحول ذلك الممثل إلى ما يشبه الآلة الجامدة التى لا حياة فيها ولا جاذبية تميزه عن غيره، ولذلك لجأ "رمضان" إلى التنوع فى الأداء الذى أصبح من الضرورات الفنية التى تتطلبها المرحلة الحالية من حياته، فجاء أداءه يتسم بالحكمة والتوازن النفسى الذى يؤهله إلى المنافسة على القمة، من خلال أسلوبه الذى يتميز به مع تباين الأساليب التعبيرية من اتصال وإدراك وفهم وتخيل وانفعال وامتزاج الأفكار والصور فى صناعة مشاهد مبهرة.
تذكرنى شخصية "رضوان" بشخصية "حبيشة" التى أداها "محمد رمضان" فى أولى تجاربه الدرامية "ابن حلال"، والتى أحدثت نقلة نوعية فى حياته الفنية، وأثبت بالدليل العملى أنه ممثل موهوب بالفطرة، خاصة أن "حبيشة" يشبه فى تكوينه النفسى والاجتماعى وجوها كثيرة لابد أن تلقاها فى قلب الشارع المصرى المسكون بالفقروالعوز وقلة الحيلة، بل أن "إبن حلال" كان هو المعادل الموضوعى لكثير من بسطاء المصريين الذين يسكون القرى فى صعيد مصر ودلتاها، تماما مثل شخصية "رضوان" القريبة فى تكوينها النفسى لكثير من بسطاء هذا الوطن.
تبدو براعة محمد رمضان فى تجسيد شخصية "رضوان" بلكنتها الشعبية المتقنة، وبجسم مرن وطيع فى أداء المواقف المختلفة، والتحكم فى طريقة التنفس بطريقة صحيحة ساعدته على التنويع فى إيقاع الصوت والنبرة، إضافة إلى الإلمام بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية لشخصية صنايعى "الدوكو"، والذى على ما يبدو فيه قدر من التماس مع حياته الشخصية، ومن ثم تعاطف معها الجمهور، ويبقى الأداء الاحترافى على جناح الدهاء الماكر للشخصية واضحا بشكل مذهل على نحو يؤكد أن الممثل لا يستطيع أن يمثل حقيقة إلا من خلال الأحاسيس الداخلية التى يجب أن تجند فى تصوير الشخصية والموقف الدرامي، لهذا تناغم بشكل كبير مع أقرانه من الممثلين.
برع "أحمد زاهر" فى أداء شخصية "فتحي" برعونته وعصبيته المفرطة على مقام الدهشة الإبداعية كعادته، فقد تفوق فى الأداء عبر عينين معبرتين ماكرتين، ولغة جسد تجاوزت سقف التوقعات، حين ذهب إلى مناطق هى أبعد ما يمكن أن يحلم به عشاق الأداء والإبداع، وبعيدا عن ردود الفعل المتباينة تجاه العمل فإن ماقدمه "زاهر" يجعلنا نتأمل مليا قدرته على توصيف الحدث عبر لغته الخاصة المنعكسة على ملامحه الحادة فى نعومة مصطنعة، ونبرة صوته القادم من قرار عميق، وحركات جسده بشكل هيستيرى أحيانا، وارتفاع وتيرة انفعالاته إثر مواقف بسيطة، واستخدام أدواته وتوظيفها بلغة تعبر جيدا عن امتلاك مفاتيح الشخصية القادرة على التحكم بالحدث والتفاعل معه بطريقة تؤكد موهبته الحقيقية.
أثبتت "روجينا" فى شخصية تاجرة المخدرات اللعوب "فدوى" أن الشخصية المضحكة "الكوميدية" لا تختلف كثيرا عن الشخصيات الدرامية الأخرى من حيث أبعادها وصفاتها إلا بشكل نسبي، إذ أن لها بعدا عضويا وجسمانيا معينا، وقد يكون فيه تشويه يثير الضحك - بحسب جروتسكى - وكذلك أن ممثل الأدوار المضحكة "الكوميدية" لا يختلف عن ممثل الأدوار الأخرى سوى ما تتطلبه الشخصية الكوميدية من متغيرات فى التعبير الجسمانى والصوتي، وهنا تؤدّى المبالغة والاصطناع والتشويهات دورها أحياناً فى أداء الممثل بقصد إثارة الضحك، ومثلما يمتلك الممثل الكوميدى مرونة جسمانية وصوتية كافيه لتنفيذ المتغيرات المذكورة أعلاه فقد امتلكت "روجينا" كممثلة تراجيدية ودرامية مثل هذه المرونة أيضاً فى أدائها لشخصية "فدوى" على نحو يصنع الضحك من فرط المواقف الأكثر تراجيدية.
على نفس الوتيرة يأتى أداء "إدوارد" لشخصية الأخ الأكبر "عبد المحسن" فى عذوبة منقطعة النظير، ليؤكد تفوقه فى الأداء التراجيدى البديع الذى تميز فيه من قبل فى "حواديت الشانزليزيه"، لكنه هنا فى "البرنس" خلط أداءه بلون كوميدى خفيف قادم من فرط المأساة التى يعيشها بفعل رحيل الأب غاضبا عليه وأمه التى تستنكر كل تصرفاته وأساسها زواجه من راقصة، لقد استعمل "إدوارد" اللغة الحية التى تؤثر فى الإقناع، ومن ثم فإن الإقناع ولد لديه لغة المشاعر التى أتاحت له بالضرورة الفوز بقلوب الآخرين، على جناح هذا الإقناع الذى يستجيب لنزعته الفطرية لحب الآخرين حتى أنه استطاع إبكاء وإضحاك الآخرين فى أن واحد، لأنه باختصار جعلهم يستمعون له بقلوبهم قبل أذانهم.
ولأن "محمد علاء" ممثل نجح فى تطوير أدائه على نار هادئة، فهو يبدو لى مثل "الحرباء" التى تبرع فى تغير لونها بتغير المواقف واتجاهات الأحداث تماما كما جاء فى دوره فى مسلسل "طاقة حب"، فإنه تعامل فى "البرنس" مع شخصية "ياسر" طويل القامة فى الجسم والخبث والدهاء، وأراد أن يؤدى دور إنسان ممتعض من حاله المزرى، حيث لايعجبه أبدا العيش على فتات أخيه "فتحي"، وقد فعل ذلك بمعزل عن تقمصه للشخصية، ومع كل ذلك فقد حقق أكبر معدل من الاندماج الانفعالى بالشخصية التى يجسدها، متحررا من الرخامة فى الإلقاء - التى عادة ما تشغل المشاهد عن استيعاب معنى الكلمات - بل إنه كان يضفى على صوته وفرة من الزخرفة الصوتية التى تضفى نوعا من المصداقية فى التعبير عن آلامه وأحزانه بعد فك قيده واستعادة ذاكرته وإطلاق حريته عبر تطور أحداث الحلقات.
أما "رحاب الجمل" فى تجسيدها لشخصية "عبير" الطائشة المتشبعة بنار الحقد من "رضوان" وكل من حولها حتى زوجها الذى تقهره طوال الوقت بغناها عنه، وهى تظهر لنا من خلال تلك الشخصية أن صفات التمثيل الجيّد أنه لا يظهر كتمثيل أبدا، والممثل الجيّد يقنعك أن ما تشاهده هو حقيقة واقعة، وقد يكون أقرب تشبيه للممثّل الجيد من عالم السيارات، فالسيارة الجيّدة هى التى تؤدى وظيفتها وتنقلك إلى مكان عملك ومنه، دون فرض حضورها الثقيل عليك، فلا تحسّ بصلابة الهيكل غير العادية، أو الانحراف المستمر للعجلات إلى ناحية دون ناحية، أو بحرارة المحرك المبالغ فيها تنتشر إلى جميع أنحاء السيارة، وهو بدا جيدا فى أداء سلسل بجسم مطواع لـ "رحاب" مع كافة التطورات والمراحل التى تمر بها "عبير" طوال الوقت.
وهنا أيضا ينبغى الإشادة بأداء كل من "إنعام الجريتلي، وسلوى عثمان" فى لعب دور الأم على طريقة نجوم السينما فى الزمن الجميل، كما أعجبتنى جدا "بدرية" طلبة بخفة دمها فى أداء دور الراقصة "عظيمة"، ويبدو ملحوظا ذلك الأداء الناعم من جانب "ريم سامي" فى دور "نورا" الأخت الصغرى المغلوبة على أمرها.
عبر ثلاث حلقات فقط استطاع "عبد العزيز مخيون" بخبرته وحنكته الطويلة أن يترك فينا أثرا كبيرا ببلاغة أدائه الرائع لشخصية الأسطى "حامد البرنس"، وفى قدرة فذة فى التجسيد استطاع الدخول فى إهاب الشخصية ومحاولة الاتساق بالشخصية الدرامية والتظاهر بها، وذلك بمحاكاة طريقة كلامها وطريقة حركاتها وسكاتاتها، أى رودود أفعالها فى لحظات الصمت، ولقد أمكنه ذلك من الدخول أيضا تحت جلدها أى يحاكيها أو يماثلها تماما محاولا الوصول للكمال، ولكنه فقط من باب المحاكاه أو التشبه، ومن هنا يختلف التشخيص عن "مخيون" فى أن التشخيص مشتق من لفظة الشاخص أى الشئ ذو البعد الواحد، ومع ذلك فالتمثيل عنده يعتمد على التجسيد أى إعطاء أكثر من بعد للشخصية كما فعل مع الأب الذى أحب واحد فقط من أبنائه وبالتالى أورثه بغضهم وكراهيتهم التى أججت الصراع.
ربما كان دور المخرج محمد سامى هنا مهما، حيث نجح فى إدارة الممثلين على نحو احترافي، كما أنه أجاد كثيرا فى تفكيك طلاسم النص إلى مجموعة من المشاهد المتجانسة، مستغلا عناصر الديكور الذى برع فى تصميمه المهندس "حسن إبراهيم" وأجواء التصوير المناسبة بلمسات كاميرا "أحمد فهيم" ومونتاج متقن من جانب "غادة عز الدين" فى صناعة عمل درامى يأتى على نحو مختلف عن كل مسلسلات هذا الموسم، ومما لاشك فيه فإن روعة الموسيقى التصويرية للمبدع "عادل حقي" قد غلفت المسلسل بطابع تراجيدى خاص ساهم فى جلب متعة لاتنتهي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة