طائرة عسكرية روسية تهبط في مطار جون كينيدى الدولى، بولاية نيويورك، تحمل مساعدات إنسانية لأحد أكبر المناطق المنكوبة في العالم جراء تفشى فيروس "كورونا" القاتل، في مشهد يحمل جانبا رمزيا، يمثل امتدادا صريحا لتغييرات عميقة في المشهد الدولى، فيما يمكننا تسميته بـ"عالم ما بعد كورونا"، في ظل تصاعد الدور الذى تلعبه القوى المنافسة للولايات المتحدة، على صدارة النظام العالمى، وعلى رأسها روسيا والصين، والتي تمثل أزمة انتشار الفيروس فرصة جديدة لهما لتوسيع نفوذهم، ليس فقط في مناطقهم التقليدية، وإنما في مناطق النفوذ الأمريكي.
ولكن بعيدا عن الصراع بين واشنطن وخصومها الدوليين، يبقى الحديث ملحا عن دور السياسات الإنسانية في توطيد الدور الدولى للقوى الجديدة، في الوقت الذى تخلت فيه الإدارة الأمريكية عن دورها القيادى، سواء تجاه الحلفاء، أو المحيط الدولى بشكل عام، لتجاوز الأزمة العالمية، في إطار رؤية الرئيس دونالد ترامب، والتي تقوم في الأساس على أن الدعم الأمريكي للدول الأخرى، يعد السبب الرئيسى في الخسائر الكبيرة التي تكبدتها واشنطن في العقود الماضية، ليصبح شعار "أمريكا أولا" بمثابة المحور الذى تدور حوله السياسات الأمريكية منذ اعتلاء ترامب عرش البيت الأبيض في يناير 2017.
وهنا أصبحت السياسات الأمريكية الجديدة بمثابة فرصة مهمة لمنافسى واشنطن، للصعود عبر دور إنسانى "شعبوى"، لا يكتفى باختلافه عن الرؤية الأمريكية الحالية، وإنما يمثل انقلابا على الرؤى الإنسانية التي سبق وأن تبناها المعسكر الغربى لعقود من الزمن، والتي قامت في الأساس على تسييس المبادئ الحقوقية، لتكون ذريعة للتدخل في شئون الدول الأخرى، سواء لإثارة الفوضى، أو لإجبار الحكومات على الدوران في فلكهم.
فعلى الرغم من شعبوية الخطاب الأمريكي الحالي، وتشابهه إلى حد كبير من الخطاب الذى تتبناه موسكو، على سبيل المثال، إلا أن أزمة "كورونا" كشفت أن ثمة غطاء إنسانى، يميز السياسة الروسية، يقوم في الأساس على مغازلة الشعوب الأخرى، للفوز بتعاطفها على حساب الحكومات، وهو ما يتجلى بوضوح في المساعدات الروسية لأمريكا، حيث لم تمنع العقوبات التي تفرضها واشنطن على روسيا، أو الخصومة التاريخية بين البلدين، الحكومة الروسية من تقديم دعم إنسانى لـ"المواطن" الأمريكي، الذى يعانى في صراعه مع الفيروس القاتل، في الوقت الذى تحولت فيه "الشعبوية" الأمريكية إلى دبلوماسية لمغازلة الحكومات، عبر احترام التاريخ والرموز الوطنية والدينية المتعلقة بالدول الأخرى.
شعبوية ترامب لا تختلف كثيرا عن السياسات "الحقوقية" الأمريكية، والتي دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تسييسها، بينما نجحت موسكو في خلق أبعاد جديدة لشعبويتها، من خلال أزمة "كورونا"، عبر مخاطبة مواطني الدول الأخرى مباشرة، عبر التلامس مع أوجاعهم، بصرف النظر عن الخصومات السياسية مع الحكومات، وهو الأمر الذى لا يقتصر على الموقف الروسى من الولايات المتحدة، وإنما امتد إلى دولا أخرى، وعلى رأسها دول أوروبا الغربية، وذلك بالرغم من سياسة العقوبات التي تبنتها تجاهها لعقود طويلة من الزمن.
السياسة الروسية تساهم بدور كبير في تغيير دفة المواقف الرسمية، حيث تصبح نبرة العداء لروسيا التي طالما تبناها الساسة في دول المعسكر الغربى، بمثابة ورقة خاسرة في الصناديق الانتخابية، في ظل الشعبية الكبيرة التي ربما تحظى بها موسكو بين مواطني خصومها في المستقبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة