لم يكن صحفيا عاديا، كان ناقدا رياضيا من العيار الثقيل يمتلك قلما مميزا، وقدرة على التحليل الرياضى العميق وهو ما أهله أكثر من مرة للفوز بجائزة المقال التى تمنحها رابطة النقاد الرياضيين، وقبل هذا كله كان إنسانا بقلب كبير، كما كان يتمتع بروح طفولية شفافة يمكنك أن ترى باطنها من ظاهرها وأنت تنصت إليه حتى لو كانت هذه أول مرة فى حياتك يشاء القدر أن تلتقيه فيها.. أتحدث هنا عن محمود رياض زميلنا الصحفى والإنسان أبو قلب كبير الذى سبقنا إلى لقاء ربه مصابا بفيروس كورونا، فيما يرقد 3 من صغاره على أسرة المرض اليوم فى مستشفى العزل.
عرفت فى دنياى ألوانا وأشكالا شتى من البشر، ولكن قليلون من كنت ألوذ بهم عندما كانت تداهمنى مشكلات الحياة التى لا ترحم أحدا فتغلق فى الوجه أى أفق للتفاؤل وتسد أمام العقل أى نافذة للتفكير، كنت أسارع على الفور للاتصال بصاحب القلب الكبير والرأى الراجح طالبا النصح والمشورة، وربما أذهب إليه فى الدور الثامن فى نقابة الصحفيين حيث أجلس فى حضرته كغيرى من الكثير من أبناء المهنة ليلقى فى روعنا بعضا من مهدئاته الفطرية التى تنساب عبر كلام يجسد كل حرف فيه خبرة شاب فى مقتل الأربعين، ولكنه عارك الحياة منذ نعومة أظافره.
لم يكن غريبا أن يتحول الفيس بوك أمس إلى ساحة عزاء واسعة فى محمود رياض، ليس لأنه فقط أول صحفى يموت مصابا بفيروس كورونا، ولكن لأن لرياض أيادى بيضاء من الدعم النفسى على كل من يعرفه منا من أكبر صحفى تربطه به صلة حتى أصغر متدرب عرفه فى بلاط صاحبة الجلالة.
كان محمود رياض تعبيرا واضحا عن أناس الزمن الجميل الذين كنا نراهم قديما ممثلين فى الجد والجدة حيث كان يمتلك طيبة استثنائية وبصيرة لا تخيب أبدا، لذا لم يكن غريبا أن يكون مستشارا بلا أجر لى ولغيرى، كما كان الراحل خزانة لأسرار الكثيرين ممن يعرفونه، حتى فى أدق تفاصيل حياتك لم يكن هناك حرجا أن تتحدث إلى شخص تعلم تمام العلم أنه لا يخون ولا يتلون ولا يمكن أن يفشى سرا فى يوم من الأيام .
لم يكن غريبا فى ظل هذا كله أن يكون رياض شريكا لى ولغيرى فى اتخاذ الكثير من القرارات الحياتية التى نقف أمامها طويلا، كما كان معنا دوما حتى عندما كان يتعلق الأمر بشراء ملبس أو أى سلعة ذات قيمة للبيت.
عانى رياض كثيرا كأغلب أبناء جيله من مهنة لا ترحم حيث قضى سنوات طوال ليحصل على حقه المشروع فى عضوية نقابة الصحفيين بحكم قضائى، كما كان فى مقدمة من دفعوا ثمن خسائر الصحافة الورقية حيث فقد عمله كرئيس لقسم الرياضة بجريدة الخميس عقب إغلاقها بسبب الخسائر، ليعانى بعد ذلك كثيرا فى البحث عن عمل مناسب داخل سوق تشبع كثيرا فى ظل تحديات غير مسبوقة.
بخلت الدنيا على رياض بالكثير من حقوقه المشروعة لكنه لم يبخل على أى إنسان بما يملك وإن كان قليلا.. كان متصالحا مع نفسه لأقصى مدى، ولم يكن ينظر إلى ما فى أيدى غيره، كان يمتلك عزة نفس كنت تشعر معها أنه حاز الدنيا وما فيها، لم يكن شكاء أو بكاء وإنما كان دوما حلالا للعقد.
لم يكن رياض شخصا عاديا، كان واحدا من أولئك الأطهار الذين يكون وجودهم فى الحياة عابرا، كما كان فى حياته استثنائيا كان فى رحيله مفاجئا وصادما فبعد وعكة صحية كنا نظنها عابرا داخل محمود المستشفى لنكتشف إصابته بكورونا وبعد بوستين على حسابه تنفسنا فيهما الصعداء وقلنا فيهما بأن تعافيه بات وشيكا، يأبى محمود إلا أن يغادر إلى دار الحق.
حتى وهو على فراش الموت وفى آخر عهده بالدنيا بمستشفى العزل اختار المريض أن ينصح الأصحاء قائلا: "محدش يسكت على نفسه".
رحل رياض فى الأربعين من عمره تاركا سيرة خالدة بكل خير وأحبة بعدد حبات الرمل فى كل شبر من أرضنا الطيبة، ومخلفا 4 صغار لا يتجاوز أكبرهم الـ8 سنوات فى حين مازال الأصغر رضيعا، واليوم ثلاثة منهم مع أمهم يصارعون المرض بمستشفى العزل.
نعاهد روحك الطاهرة على أن نبقى دائما أوفياء لذكراك حتى نلقاك فى مستقر رحمته.
وإنا لله وإنا اليه راجعون
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة