في شهر رمضان يطيب للناس قراءة الكتب التراثية، واليوم نتوقف مع كتاب "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير، وليس شرطا أن نتفق معه، بل نحن أقرب للاختلاف، لكن ذلك لا يمنعنا من التعرف على الكتاب وما فيه.
في بدايات الكتاب نجد فصلا بعنوان "ما سوى الله مخلوق" وفيه كلام عن أول الأشياء التي خلقها الله:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" الزمر: 62 فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له، مربوب مدبر، مكون بعد أن لم يكن محدث بعد عدمه.
فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بين ذلك من جامد وناطق الجميع خلقه، وملكه وعبيده وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته "هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [الحديد: 4] .
وقد أجمع العلماء قاطبة لا يشك في ذلك مسلم أن الله خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستة أيام كما دل عليه القرآن الكريم. فاختلفوا في هذه الأيام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة مما تعدون؟ على قولين كما بيَّنا ذلك في التفسير، وسنتعرض لإيراده في موضعه. واختلفوا هل كان قبل خلق السماوات والأرض شيء مخلوق قبلهما؟ فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه: لم يكن قبلهما شيء وأنهما خلقتا من العدم المحض.
وقال آخرون: بل كان قبل السماوات والأرض مخلوقات أخر لقوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" [هود: 7] .
وفي حديث عمران بن حصين كما سيأتي: "كان الله ولم يكن قبله شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض "
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي، أنه قال:
يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟
قال: "كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء".
رواه عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة به. ولفظه: "أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ وباقيه سواء".
وأخرجه الترمذي: عن أحمد بن منيع، وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون، وقال الترمذي حسن.
واختلف هؤلاء في أيها خلق أولًا ؟
فقال قائلون: خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهذا هو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي، وغيرهما. قال ابن جرير: وبعد القلم السحاب الرقيق.
واحتجوا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
" إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" لفظ أحمد.
وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره: أن العرش مخلوق قبل ذلك.
وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في (صحيحه)، حيث قال: حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرج، حدثنا ابن وهب، أخبرني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
"كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعرشه على الماء".
قالوا: فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير.
وقد دلَّ هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير. كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم.
ويؤيد هذا ما رواه البخاري: عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن لرسول الله ﷺ:
جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر.
فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله -وفي رواية معه وفي رواية غيره - وكان عرشه على الماء. وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض".
وفي لفظ: "ثم خلق السموات والأرض "
فسألوه عن ابتداء خلق السموات والأرض. ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فأجابهم عما سألوا فقط. ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل خلق الله عز وجل الماء قبل العرش. رواه السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا:
إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء.
وحكى ابن جرير، عن محمد بن إسحاق، أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميَّز بينهما فجعل الظلمة ليلًا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا.
قال ابن جرير: وقد قيل: إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي، ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة، ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة