"عام الكمامة".. عنوان يليق بالعام المنصرم، بحكم هيمنة فيروس كورونا على أحداثه منذ بدايته، فكان سببا فى انقلابات نوعية فى حياة الأفراد والمجتمعات المحلية، مرورا بالدول وحتى النظام الدولى بصورته الكلية، فأصبح 2020 شبيها بـ"ألام" المخاض، المرتبطة بميلاد عالم جديد، تحكمه قواعد جديدة، تقوم فى جوهرها على تلك المبادئ التى أرساها الفيروس، سواء عبر التباعد، أو الإغلاق أو تقييد قدر من الحريات العامة والخاصة، وهو ما يتعارض مع ما سبق وأن نادى به دول المعسكر الغربى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى الأربعينيات من القرن الماضى.
ولعل الملفت للانتباه أن الدعوات لتعميم "قواعد كورونا"، قد بدأت قبل ظهور الفيروس، فالعولمة، وما ترتب عليها من انفتاح غير مسبوق، أضرت بمواطنى العديد من دول العالم، وعلى رأسهم مواطنى أوروبا والولايات المتحدة، حيث كانت سياسات الحدود المفتوحة، والتجارة الحرة، باهظة الثمن بالنسبة لهم، ففقدوا وظائفهم، وبات أمنهم مهددا فى ظل احتمالات تسلل عناصر إرهابية إلى أراضيهم، فى الوقت الذى باتت فيه الحريات "غير المحدودة"، فى الكثير من الأحيان، مصدرا لتهديد استقرار دولهم، فصارت تثير النزعات العنصرية تارة، بينما تهددهم بموجات الإرهاب الدينى تارة أخرى، لتتحول المبادئ الغربية إلى أصنام فى حاجة إلى الهدم، فى حين أصبح الفيروس هو القنبلة التى هدمت كل شىء.
الفيروس القاتل كان ديكتاتورا، وفرض قواعده على العالم، دون رحمة، فعدم الالتزام بها كان مكلفا، إلى الحد الذى ربما فاق التصورات، سواء على مستوى الأفراد أو الدول، فهل كان يمكن لأحد أن يتصور أن تقف أمريكا، التى طالما تباهت بعلمها، عاجزة أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة، ليكلفها مئات الألاف من الوفيات، بالإضافة إلى ملايين الإصابات؟.. هل كنا نتصور يوما أن تقدم الصين مساعدات لأوروبا لمواجهة الفيروس القاتل الذى عجزت معه مستشفياتها عن استيعاب الضحايا؟
عقاب الفيروس لم يقتصر على الدول بصورتها الكلية، وإنما امتد للأفراد، فعندما سخر منه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، رافضا الالتزام بالكمامة، والتى تبدو بمثابة "الزى الرسمى المعتمد لكورونا"، خسر منصبه، أمام منافسه جو بايدن، على الرغم من أنه كان الأقرب إلى الفوز بولاية ثانية قبل التفشى المفزع فى الولايات المتحدة، بينما عاقب كذلك العديد من زعماء العالم، الذين التزموا شكليا بالكمامة دون الالتزام بقواعد التباعد والإغلاق، فأصيب قطاع كبير منهم بالفيروس، مما خلق حالة من الهلع لدى شعوبهم بسبب الخطورة الحقيقية للأزمة.
يبدو أن أمريكا وأوروبا لم يدركا حقيقة مفادها أن التمسك بـ"التابوهات" التقليدية يعنى فناءً حقيقيا، بينما أدركت بكين أن كورونا ليس مجرد فيروس، وإنما بداية لمرحلة دولية جديدة، كانت تستعد لها وتنتظرها لسنوات طويلة، حتى يمكنها القفز فى نهاية المطاف إلى القمة ومزاحمة الكبار، فى نظام دولى متعدد بعيدا عن الأحادية التى هيمنت على العالم منذ نهاية الحرب الباردة فى بداية التسعينات من القرن الماضى.
الواقع أن قواعد كورونا ستصبح بمثابة النظام الدولى الجديد، فالعودة إلى الالتزام بالحدود الوطنية (الانغلاق) سيكون أساسا مهما لحماية المواطنين أمنيا واقتصاديا، بينما سيصبح البعد "المصلحى" الضيق حاكما للتقارب بين دول العالم، ليكون التباعد هو السمة الحاكمة للعلاقات الدولية، فى حين تحمل "الكمامة" بعدا رمزيا، لتحمى الأوطان من فيروسات الإرهاب والبطالة والأزمات، التى صدرتها ظواهر الهجرة واللجوء، والتى ترتبت على حالة عدم الاستقرار فى العديد من دول العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة