هى مدينه روحانية ذات طبيعه نضرة خلابة، لأنها تجمع بين سحر المكان وعظمة الزمان الذي يتجلى على أرضها المقدسة، حيث تحيطها الجبال من كل اتجاه، وتجري بين أوديتها الفسيحة مياه الأمطار التي تمثل شريان حياة لأولئك البشر القلائل الذين يعيشون على أرضها، وكذا النباتات والأعشاب النادرة التي تحيا على تلك المياه حين تنتفض في كل فصل من فصول السنة، ففي الشتاء تعلو جبالها الثلوج على قمم الجبال الشاهقة وتبدو في أبهي صورها بين جاراتها من المدن بذلك المشهد الذي يخطف الأرواح والقلوب ، وكم من معافا أصبح يهيم شوقا بطبيعه "سانت كاترين" في مواعيد محددة من السنة يرتاد فيها هذا المكان بتجلياته الروحانية وله عذره في ذلك بالطبع.
في الخريف تجنح الطبيعة هنا في "سانت كاترين" نحو الغموض كثيرا حين تبدل كسائها حين تتساقط الأوراق من الشجر وتجرد فروعه استعدادا لعام جديد، ثم تبدو في أحلى حلة لها في الربيع، فتكتسي الطبيعة في هذا المكان باللون الأخضر الذي يتفاوت في درجاته من الفاتح إلى الداكن، وتتفتح الأزهار بين صخورها وتغطي ألوان الزهور الجبال الذهبيه والبيضاء، فتشكل لوحه فنيه طبيعيه تأسر القلوب وتخطف الأنظار.. إنها طبيعه "سانت كاترين" التي تتألق الشمس في سمائها طوال فصل الصيف وترسل أشعتها الساخنة، وتهمس في أذنك: تذكر الشتاء أيها الزائر، وفي ليالي صيفها يأخذ القمر مكانه في منتصف السماء، ويظهر كأنه أمير عاشق للطبيعة التي من فرط جمالها الفاتن يشع جمال ضوئه الفضي بينما نسيم الليل ينتشي بعطر المكان الفواح.
"سانت كاترين" هى البقعة الوحيدة على وجه الكرة الأرضية التي تجلى فيها المولى سبحانه وتعالى من عليائه لموسى عليه السلام كي يلقنه باللوح المحفوظ، ويظل الجبل المدكوك في سانت كاترين، شاهدا على هذا التجلي حتى قيام الساعة، ولا ننسى قول المولى عز وجل لنبيه موسى "اخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى"، هذا الوادي المقدس أيضا فى منطقة سانت كاترين
وانطلاقا من إدارك الدولة المصرية لقيمة هذا المكان، حيث يجمع الديانات السماوية الثلاثة على أرضه، وهو ما تستلزم الاهتمام والتقدير وإعلاء شأنه في ظل ارتفاع معدلات التطرف الديني الذي يشهده العالم، ولهذافإن مشروع "التجلي الأعظم فوق أرض السلام" في محيط جبلي موسى وسانت كاترين، بمثابة قيمة مضافة روحانية للإنسانية بأسرها، ومن هنا يأتى تطوير مدينة "سانت كاترين"، ووضعها بمكانتها اللائقة التى تستحقها هذه البقعة الطاهرة المقدسة، وإقامة مدينة سانت كاترين الجديدة وتعظيم الاستفادة من المقومات السياحية لهذه المدينة، ذات الطابع الأثرى والدينى والبيئى معا، تماشيا مع اتجاهات التنمية المستدامة، خاصة أن هناك أعمال لتطوير دير سانت كاترين المسجل على قائمة التراث العالمى قائمة منذ عدة سنوات بالتعاون بين كل الجهات المعنية بالمنطقة.
ولقد راعت وزارتا الإسكان والآثار أن هذا المشروع الثقافي التراثي يتمتع بطابع سياحي في أعمال التطوير، ومن ثم رعوا عدم المساس بموقع الوادى المقدس، وكذلك الجزء الرئيسى من المحمية الطبيعية والتأكيد على عدم إقامة أى مبان بهذه المواقع، حفاظا على قدسية وأثرية هذه المواقع، وجرى خلال الشهور الماضية ترميم الجزء الغربى من مكتبة دير سانت كاترين، المكتبة الثانية على مستوى العالم بعد مكتبة الفاتيكان، من حيث أهمية مخطوطاتها التي تضم 4500 مخطوط، إلى جانب ترميم بعض الكنائس داخل الدير مثل كنيسة "اسطفانوس ويوحنا" ووضع نظام إطفاء تلقائى وتحذير ضد الحريق شامل.
وبالفعل تم تطوير منطقة وادى الدير بوضع نظام إضاءة مناسب وإزالة الأعمدة الكهربائية من باب السلسلة حتى مدخل الدير وإنشاء بوابة أمن للحقائب والأفراد وغرفة مراقبة أمنية وكاميرات مراقبة بكافة أنحاء الدير، ولقد جاء التطوير خارج أسوار الدير بحيث يهدف إلى الحفاظ على حرم الدير طبقًا للقرار رقم 508 لسنة 1997، ويضم أربعة مناطق تشمل جبل موسى وحديقة الدير لتصبح مزارا خاصا لما تتمتع به من أشجار نادرة وثلاثة آبار وثلاثة عيون تاريخية ومنحل عسل ومعصرة زيتون، وكانت ضمن المعايير الذى سجلت منطقة سانت كاترين تراث عالمى باليونسكو 2002.
ولأن السواعد المصرية السمراء تقف على أعتاب حضارة ممتدة لأكثر من سبعة آلاف سنة وهم أحفاد الفراعنة الذين درسوا العلم وخبروا كوارث الطبيعة منذ فجر التاريخ، فقد قامت الجهات القائمة على المشروع بدراسة المخاطر البيئية من الزلازل والسيول وكيفية مواجهتها، وفي نفس الوقت تم التطوير في إطار الحفاظ على الطبيعة البدوية للمكان ورعاية مصالح أهل المنطقة، كما شمل التطوير توفير سيارات كهربائية صغيرة جولف لنقل الزوار من منطقة انتظار السيارات إلى الدير إلى جانب وجود طريق للمشاة وطريق للجمال كوسيلة انتقال إلى الدير والدخول إلى المنطقة عبر أبواب منزلقة وليست كهربائية.
وفي ظل تحويل المكان إلى مزار سياحي جاذب للسياحة الدينية تم إقامة بازارات لبيع المنتجات السيناوية والأعشاب الطبية وتوفير لافتات إرشادية وسلال قمامة وعمال نظافة بالموقع مع عدم السماح بإنشاء مقاهى فى الموقع ويمكن السماح للقرية البدوية بممارسة هذا النشاط داخل القرية، وتركيب كاميرات حرارية أعلى قمم الجبال وربطها بالأكمنة لكشف حركة الأجسام عن بعد وتطوير أماكن الجذب السياحية حول الدير وتطوير طريق وادى حبران دير سانت كاترين، وهو طريق تاريخى حيث عبره نبى الله موسى إلى جبل الشريعة بالوادى المقدس، واستخدم بعد ذلك لعبور الحجاج من ميناء الطور إلى سانت كاترين، كما شهد مطار سانت كاترين أيضا تطويرا كبيرا لتسيير رحلات طيران يومية من القاهرة إلى سانت كاترين والعودة ورحلات طيران أسبوعية من أثينا إلى سانت كاترين والعودة، وإنشاء "تيلفريك" للوصول إلى جبل موسى والجبال الشهيرة بالمنطقة
من المعروف أن هذا المكان بدأت أعمال الترميم فيه منذ عام 2007، حين تقدم رهبان دير سانت كاترين للمجلس الأعلى للآثار بدراسة تفصيلية لأعمال ترميم واجهة المكتبة وتطويرها من الداخل لحمايتها من التدهور، وخلال مشروع الترميم أعلن الكشف عن قراءات جديدة لمخطوط باستخدام تكنولوجيا التصوير متعددة الأطياف، والذى يستخدم على نطاق واسع في أوروبا وأمريكا الشمالية من أجل استعادة النصوص الممحاة من مخطوطات (البالمبسست)، بالإضافة إلى استعادة نصوص مخطوطات أصابها الضرر نتيجة النيران أو المياه.
هذه المخطوطات تتضمن أجزاء من نصوص طبية يونانية قديمة يعود تاريخها إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي، وهذه النصوص تتضمن أجزاء من بحث الطبيب العظيم "هيبوقراط"، وأن مصطلح (بالمبسست) يقصد به المخطوط الذى يتكون من طبقتين بالكتابة أو أكثر، واقترح مشروع التطوير آنذاك ترميم لوحة الفسيفساء أقدم وأجمل فسيفساء في العالم بكنيسة التجلى والتى تعود إلى القرن السادس الميلادى، وهى من قطع ملونة من الزجاج على أرضية من الذهب المعتم والتى تم ترميمها منذ عام 2005 بواسطة بعثة إيطالية برئاسة الدكتور "روبرتو ناردى" وافتتحها وزير السياحة والآثار الدكتور خالد العنانى في ديسمبر 2017.
أعمال التطوير التى تمت في ذلك الوقت شملت تغيير مسار الزيارة التقليدى من البوابة بالجدار الشمالى الغربى إلى الباب القديم بالجدار الشمالى الشرقى والمعروف بباب الحجاج، وكان يدخل منه الحجاج قديما بعد نزولهم من جبل موسى ليأخذ الزوار خط سير الحجاج قديما إلى الوادى المقدس الذى يضم شجرة العليقة وبئر موسى وكنيسة العليقة المقدسة ثم يتجهوا إلى كنيسة التجلى ثم باقى منشآت الدير وأصبح الباب القديم بالجدار الشمالى الغربى مخصصًا للزيارات الرسمية وتم تزويد المسار الجديد بالخدمات وبازار لبيع الهدايا المتعلقة بالدير.
ورغم حدوث هذه الترميمات، فقد ظل هذا المكان على مدار 3300 عام، منذ واقعة الكلام الربانى والتجلى الإلهى، ظلت تلك البقعة المباركة فى سيناء، خارج الاهتمام، بل إنها بقيت نسيا منسيا على مر العصور، رغم أنها كنز الكنوز التى يزخر بها هذا البلد الثرى بحضارته، وبرغم أنها موطن البركة السرمدية على ظهر الأرض، ومهبط قبس النور الربانى، فى حين، أن مقار الصديقين والأولياء والصالحين تقام لها الأضرحة الشامخة، وآثار الفراعين والملوك تنشأ عليها المعابد والقصور والمتاحف، وزيارات الأباطرة والقياصرة والأكاسرة تدون على الجدران وتروى على جانبى مسالكها القصص والأساطير.
وها هو اليوم قد تم الانتهاء من مشروع "التجلى الأعظم في سانت كاترين" رمزاً تقيمه مصر للتسامح بين الشعوب دون تمييز ،ليستقبل السياح من أصحاب الديانات السماوية للتمتع بسحر المكان والشرب من البئر المقدس دينيا الذى روى منه نبى الله موسى لبنات نبى الله صالح ، وسوف يشعر السائح أنه أمام لوحة ربانية أبدع الموالى عز وجل تشكيلها، وتكفي متعة النظر للوديان والجبال، وفى "كاترين" أمتع رحلتين ليس لهما مثيل فى العالم، الأولى هى صعود جبل موسى ومشاهدة الشروق أو الغروب وكأنك مزروع وسط السماء بنجومها، والرحلة الثانية بأوديتها ومغاراتها خاصة فى الشتاء والثلوج تكسو كل شيء.
هذا المشروع الإنسانى الكبير حتما سيعيد الأمل بعد تعدد الأنماط السياحية، ومع تحسن خدمات منطقة كاترين وما حولها، وإقامة المهرجانات العالمية ..عندئذا فقط من حقنا أن نحلم بأمان كثيرة فى أن تحصل تلك المنطقة على بعض حقها وجزء من نصيبها العادل من التدفق السياحى، فهي قادرة إذا أحسن استغلالها على جذب الملايين من عشاق الطبيعة الساحرة، خاصة إن كانت مشبعة بنفحات روحانية مستمدة من جوهر هذا المكان المقدس في الديانات السماوية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة