يتحدث العلماء عن "الإجماع" فى الفقه، لكن ما معنى هذه الكلمة، وهل للعلماء الأربعة رأى واحد؟ هذا ما سنعرفه من كتاب "السلف المتخيل" لـ رائد السمهورى، الصادر عن المركز العربى للأبحاث ودراسات السياسات مقاربة تاريخية تحليلية فى سلف المحنة أحمد بن حنبل.
يقول الكتاب تحت عنوان "إجماع الصحابة"
اختلف الأصوليون (أى علماء أصول الفقه) فى تعريف الإجماع اختلافًا كثيرًا، وفى أركانه، وشروطه، وأحكامه، بل من طوائف المسلمين من خالف فى كون الإجماع نفسه دليلًا شرعيًا، سواء أكان إجماع الصحابة أم غيرهم.
ولعل الإمام أبا حنيفة النعمان (ت. 150هـ)، لا يرى الإجماع إلا ما أجمع عليه الصحابة "إذا اجتمعت الصحابة على شىء سلّمناه لهم، وإذا اجتمع التابعون زاحمناهم" ذاك أن أبا حنيفة ذاته يعدّ من التابعين، إذ ثبت لدى بعض المؤرخين أنه رأى بعض الصحابة.
وأما الإمام مالك بن أنس (ت. 179هـ)، فقد نقل القاضى عياض المالكى عنه بسنده أنه قال "ما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه، وما قلت "الأمر عندنا" فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم".
وأما الإمام محمد بن إدريس الشافعى (ت. 204هـ)، فواضح أنه يفرق بين علم العامة الذى "لا تلقى أحدًا من المسلمين إلا وجدت علمه عنده، ولا يردّ منها أحدٌ شيئًا على أحد فيه"، كما هو "فى جمل الفرائض وعدد الصلوات وما أشبهها". لكنه يرى أن إجماع الخاصّة بعيد، أى أقوال "السابقين والتابعين من بعدهم"، إذ "تختلف أقاويلهم، وتتباين تباينًا بيّنًا، فيما ليس فيه نصّ كتاب، يتأولون فيه".
أما إجماع العامة فلا إشكال فيه عند الشافعى، ولكنه لا يسلّم بإجماع الخاصّة، أى إجماع المجتهدين، لأن العلم المحيط به أشبه بالمتعذر، ولأن المجتهدين أنفسهم لا يسلم أحدهم للآخر بأنه مجتهد، بل يخطّئ بعضهم بعضًا ويجهّل بعضهم بعضًا.
وحين يدلى مجتهد برأيه ولا يُعلَم له مخالف (وهو ما يسمّى الإجماع السكوتي) فإن الشافعى لا يعده إجماعًا، ولا يراه حجة، فـ "لا يقال لشىء من هذا إجماعٌ، ولكن ينسب كلّ شىء منه إلى فاعله، فينسب إلى أبى بكر فعله، وإلى عمر فعله، وإلى على فعله، ولا يقال لغيرهم ممّن أخذ منهم: موافقٌ لهم، ولا مخالفٌ، ولا ينسب إلى ساكت قول قائل، ولا عمل عامل، إنّما ينسب إلى كلّ قوله وعمله»، ثم يصل إلى نتيجته فيقول: "وفى هذا ما يدلّ على أنّ ادّعاء الإجماع فى كثير من خاصّ الأحكام ليس كما يقول من يدّعيه".
وأما الإمام أحمد بن حنبل (ت. 241هـ)، فله نصوص فى نفى الإجماع مستشكَلة، ولا تزال مثار استشكال وتأويل حتى هذه الأيام، نرجئ القول فيها إلى موضعها من الكتاب، غير أنها تدور حول تكذيب ادعاء الإجماع، وأن العلم به صعب جدًا أو محال، وأنه دعوى المبتدعة، ومع هذا فله نصوص تفيد الإجماع.
هذا عرض موجز لأقوال أئمة المذاهب الأربعة، لم تخل على مرّ العصور من تأويل واجتهاد لعلماء الأصول، نذكر فيما يأتي، على وفق الترتيب الزمنى غالبًا، مقتطفات تبيّن لنا خلافهم فى "الإجماع".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة