يعانى كثير من الناس من ضغوط الحياة، وخاصة الحالة الاقتصادية، حيث تقل دخولهم بشكل كبير عن احتياجاتهم المعيشية الأساسيَّة اليوميَّة، ناهيك عن الموسميَّة والترفيهيَّة؛ ولذا يعيش هؤلاء حياة الفقر بكل ما تحمله الكلمة من المعانى، لاسيَّما فى ظل البطالة التى يعانى منها كثير من الشباب القادر على العمل، حيث يظل حلم الشاب يطارد الوظيفة الحكوميَّة التى قد لا تأتيه قبل بلوغه سن المعاش، أو على الأقل تجاوز السن التى يعلن عنها كحد أقصى للتقدم لوظيفة، وإذا أتت لن تخرجه من فقره، ولن تكفيه ربما لطعامه وشرابه، فضلا عن سكنه وزواجه.
وفى الوقت الذى يبقى فيه ملايين من الشباب بلا عمل أو يعملون أعمالا لا تضمن لهم الحد الأدنى لحياة كريمة، تُهمل أبواب كسب جاءت بها شريعتنا يمكن أن تنقل هؤلاء الفقراء إلى قائمة الأغنياء، وليس فقط تحقيق مقومات الحياة الكريمة، فما لا يعرفه كثير من الناس أن شريعتنا ليست مقصورة على العبادات المتمثلة فى الصلاة والصيام والزكاة والحج، ولكنها جاءت بالعديد من المجالات الاستثماريَّة التى تناسب كل المستويات والقدرات، مضافة إلى وسائل العمل المعهودة، ومنها المضاربة وهى شركة تنشأ بين طرف يملك المال، ولا يحسن تنميته، أو لا يجد الوقت لذلك، وبين طرف يحسن التجارة ولكن لا مال له، ويتم الاتفاق فيها على أن يدفع صاحب المال مبلغًا معيَّنًا من المال إلى هذا العامل ليعمل به فى تجارة يتفقان على نوعها ومكانها، أو يفوض رب المال العامل فى ذلك، فيتاجر فى هذا المال بما يراه من تجارات مشروعة، ويكون الربح بين رب المال والعامل فى نهاية المدة نسب معينة تركت شريعتنا لهما الحريّة كاملة فى تحديد نسبة كل طرف.
ولا يشترط التسوية بينهما، فيجوز اشتراط النصيب الأوفر للعامل أو لربِّ المال ويكون الأقلُّ للآخر، المهم ألا يكون مبلغًا عدديًّا كالألف ونحوه، وإنما يكون بالنسبة المئويّة لضمان اجتهاد العامل فى تجارته لأنه كلما ربح أكثر زاد المستحق له، وهو فى ذات الوقت يرفع القدر المستحق لصاحب المال، بخلاف ما لو شُرِطَ لأحدهما مبلغ معين؛ فقد لا تربح المضاربة أكثر منه؛ فيأخذه من شُرِطَ له، ولا يأخذ الآخر شيئًا أو يأخذ شيئًا قليلا.
وأحكام المضاربة مفصلة تفصيلًا دقيقًا وكاملًا فى كتب فقهنا، والتزام طرفيها بضوابطها الشرعيَّة وخاصة الأمانة، وحسن اختيار العامل صاحب الخبرة التجاريَّة يجعل المضاربة من أكثر التجارات والمشاركات تحقيقًا للربح لطرفيها، وهو رزق حلال لا شىء فيه.
ومن هذه الطرق شركة المساقاة وهى شركة تنشأ بين صاحب أشجار مثمرة وعامل يعمل فيها ويرعاها على جزء مما تطرحه الأشجار من الثمار، للطرفين الحريَّة الكاملة فى تحديد النسب المستحقة لكل منهما، على أن يكون الجزء شائعًا وليس محددًا بثمر شجر بعينه لشخص وشجر آخر لشريكه، تحوطًا عن ظلم أحدهما فقد يطرح بعض الشجر المشروط لأحدهما ولا يطرح المشروط للآخر؛ وسُمِّيَت بالمساقاة لأن أكثر ما يحتاجه الشجر هو السقى.
وشركة قريبة منها تسمى بالمزارعة والفرق بينها وبين المساقاة أن المزارعة تكون على أرض يزرعها العامل ببذور من المالك ويكون الخارج من الزرع بينهما حسب ما يتفقان، ودليل الشركتين ما فعله رسولنا مع يهود خيبر بعد أن نقضوا عهدهم مع المسلمين وأجلاهم رسولنا عن أرضهم واستجاب لطلبهم بأن يزروعها ويكون الثمر والزرع الناتج بينهم وبين المسلمين مناصفة، ولا يشترط أن تكون القسمة مناصفة بل تجوز بأى نسب يتوافق عليها طرفى الشركة، فقد يكون العمل المطلوب قليلا، حيث يسقى الزرع بماء المطر مثلا فيناسبه زيادة نصيب صاحب الأرض أو الشجر عن نصيب العامل، وقد يكون العمل كثيرا وخبرة العامل كبيرة يناسبها زيادة حصته على حصة المالك.
ومن وسائل كسب الرزق وسائل لا تحتاج إلى رأس مال أصلا، ومن ذلك شركة الصنائع وهى ما يشبه الاتحاد المصغر بين حرفيين يتفقون فيما بينهم أن يتقبلوا الأعمال على أن يكون الأجر بينهم لا فرق بين من عمل ومن لا يعمل، وهى شركة تعالج مسألة تعرض بعض الصناع للبطالة فى بعض أيام والعمل فى أيام، بينما يكون حال آخرين عكسهم، وبذلك يضمن الشركاء بعض دخل فى كلَّ أيامهم.
وهناك شركة تسمى شركة الأبدان، وهى تشبه شركة الصنائع ولكنها بين عمال يعملون باليوميّة ويتقنون صنعة، وهناك شركة عجيبة وفريدة من نوعها ولا تجد لها مثيلا فى النظم المعاصرة؛ رغم تفتق أذهان الاقتصاديين عن كثير من أنواع الشراكة، ومجالات الاستثمار، وهى شركة لرجال أعمال بلا رأس مال تسمى شركة الوجوه، وهى اتفاق مجموعة من رجال الأعمال الذين تعرضوا للإفلاس بتكوين شركة اتفاقيَّة بينهم، على أن يشتروا بضائع بالأجل اعتمادا على وجاهتهم وثقة تجار الجملة فيهم، وبعد بيعها يقومون بتسديد الثمن، ويقتسمون جزءا من الربح، ويجعلون الباقى رأس مال؛ حتى يتكون لهم رأس مال يمكن لكل واحد منهم أن يتاجر به مستقلا، أو يتفقون على بقاء الشركة بينهم.
وبذلك يتبين أن فقهنا الإسلامى قبل ما يقارب خمسة عشر قرنا من الزمان جاء بطرق كسب تناسب كل القدرات والاحتياجات والمهارات، وجعل شروطها التعاقديَّة مرنة تلبى رغبات أطرافها وتراعى تفاوت القدرات والخبرات، ولم تتدخل الشريعة إلا بشروط قليلة هى لمصلحة المتعاقدين الذين قد يغفلون عنها عند التعاقد.
وهذه المجالات التى جاءت بها شريعتنا تصلح لعلاج البطالة المتفشية بين الشباب وتغنى عن انتظارهم الطويل لوظيفة حكوميَّة قد لا تأتى وإذا جاءت لا تفى بحاجاتهم الأساسيّة، وما من أحد من الشباب إلا ويعرف أصدقاء وزملاء سكلوا طريق العمل الحر؛ فأصحبوا من كبار رجال الأعمال، يعمل فى شركاتهم من سلكوا الطريق الروتينى المعتاد، وهو التوظف الحكومى، وقد يكونوا بلغوا فيه أعلى درجات سلمه الوظيفى.
والمراد من هذا العرض الموجز لطرق كسب يغفل عنها كثير من الناس وبخاصة الشباب، هو محاولة تغيير ثقافة انتظار الطريق المعتاد للكسب، وهو التوظيف الحكومى الذى أصبح بعيد المنال؛ نظرا للنمو السكانى الكبير؛ وهو ما يعنى كثرة الخريجين، وعدم قدرة سوق العمل على استيعابهم كموظفين، ولكن تتسع لهم ميادين التجارة بطرقها المتعددة القادرة على تحقيق الدخل الشهرى لوظيفة محترمة فى يوم واحد وأحيانا فى ساعات معدودة.
وهذه المجالات التى جاءت بها شريعتنا علاج ناجع لحالات الفقر التى يعانى منها كثير من الشباب، وهى بديل عن المغامرات التى يخوضها الطامعون فى كسب سريع؛ حيث يكونون صيدا سهلا للنصابين الذين يحسنون خداع الناس؛ فيستولون على أموالهم التى ربَّما اقترضوها من آخرين أو باعوا فيها آخر ما يمتلكون من قليل أرض أو ذهب نسائهم أو بهيمة يطعم من لبنها أولادهم؛ ليجدوا أنفسهم بعد أن يختفى من نصب عليهم يواجهون مصيرا أصعب بكثير من حالة الفقر التى كانوا يعيشونها، فعلى الشباب إحياء هذه المعاملات، وسيجدون فيها خيرا كثيرا يغنيهم عن الحاجة أو انتظار قطار التوظيف الذى يتأخر دائما ولا يصل فى موعده إن وصل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة